إختلفت الآراء في تتناول وتحلل العوامل التي تقف وراء الحراك الشعبي الذي شهدته مدينة الحسيمة في الريف المغربي على أثر مقتل تاجر السمك (محسن فكري) بتاريخ 28 /10/2016.
إذ أن منطلقات ذلك الحراك لا تبتعد عن الأسباب الإقتصادية الناجمة عن إرتفاع معدلات البطالة بين شباب الريف وإزدياد نسب الفساد ونهب المال العام وقدم البنية التحتية في تلك المناطق، فضلاً عن التهميش السياسي والإجتماعي الذي عانى منه سكان تلك المناطق، الأمر الذي خلق حالة من عدم المساواة في التنمية وتوزيع الثروة وعدم تحقيق العدالة الإجتماعية من قبل الحكومات المتعاقبة، مما ولد حالة من التوتر والحقد والكراهية فرضت نفسها بقوة في صورة حراك سلمي وإحتجاجات شعبية أخذت تطالب بتحقيق الحد الأدنى من المقومات السياسية والإقتصادية والإجتماعية لأبناء المناطق الريفية.
ولا شك فإن ما تشهده هذه المناطق تحديداً يؤشر عمق الأزمة التي يعيشها النظام السياسي في المغرب، والتي لا تختلف عن الأزمات التي طالت تجلياتها معظم الأنظمة العربية خلال موجة ما سمي بـ(الربيع العربي) لاسيما في الجمهوريات التي باتت تشهد تحولات عميقة في نظام الحكم وقواعده وأسسه سواء في كل من تونس ومصر وليبيا.
فالنظام الذي حكم الدولة المغربية وكما تؤشر التجربة التأريخية لم يستطع إخضاع وتطويع منطقة وسكان الريف بسبب طابعهم المستقل وإعتزازهم بتأريخهم إنطلاقاً من الرمزية التأريخية الكبيرة التي تحتلها مدينة الحسيمة في التأريخ المغربي كون أحد مدنها (أجدير) كانت عاصمة لجمهورية الريف التي تلت إنتصار المقاومة الريفية بقيادة عبد الكريم الخطابي على الإستعمار الأسباني في العشرينيات من القرن الماضي، فضلاً عن كونها وعلى غرار مناطق الشمال المغربي عانت من تهميش إقتصادي وإجتماعي من طرف الدولة المغربية، مما جعلها بؤرة إحتجاج سياسي دائم ضد السلطات الحاكمة عكسته فيما بعد إنتفاضة الريف للمدة 1958- 1959 وإنتفاضة عام 1948.
إتسمت تلك الإحتجاجات الشعبية منذ بداية إنطلاقها في شمال المغرب كونها ذات منطلقات وأهداف محلية صرفة بعيدة كل البعد عن الأهداف والأجندات الإقليمية والدولية، وأكد قادة الحراك إلتزامهم بالدستور المغربي ووحدة البلاد ورفض كل الدعوات المطالبة بالإنفصال أو تأسيس مناطق حكم ذاتي، الأمر الذي جعل تلك الإحتجاجات لا تخرج من دائرة المطالبة بالحقوق والمساواة والعدالة في أبسط صورها، فضلاً عن المطالبة بمحاكمة ومحاسبة كل الفاسدين في الدولة الذين نهبوا أموال الشعب ويتحكمون الآن في ثروته.
وإزاء ذلك الفهم والتصور كان رد الحكومة المغربية منطقياً عندما أدركت عدالة تلك المطالب والحقوق وسارعت الى إعلان سلسلة من الإجراءات لمواجهة الحركات الإحتجاجية في محاولة لإمتصاص الأزمة والحيلولة دون إمتدادها إلى مناطق أخرى في المغرب، ولعل في مقدمتها إعلان الحكومة المغربية عن تخصيص مبلغ مقداره مليار دولار لتمويل مشاريع التنمية والبنى التحتية في تلك المناطق وخلق فرص عمل لإستيعاب الشباب العاطل عن العمل في مناطق الريف.
ولعل تلك الإجراءات تعود بنا إلى كيفية تعامل الحكومة المغربية مع الإحتجاجات الشعبية التي إنطلقت في 9 آذار 2011 والتي تزامنت مع موجة الربيع العربي التي إنطلقت في العديد من الدول العربية آنذاك، إذ سارع الملك المغربي محمد السادس حينها إلى الإعلان عن حل الدستور والدعوة إلى إنتخابات عامة والتنازل عن بعض صلاحياته الدستورية والسماح لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الفائز بأكبر عدد من المقاعد في الإنتخابات في تشكيل الحكومة.
إن طبيعة تلك الإجراءات ربما تبقى بعيدة عن هموم المواطن لاسيما بعد إستخدام القوات الأمنية المغربية للعصى الغليظة مع تلك الإحتجاجات والتعامل مع قادة الحراك والمشاركين فيه، فضلاً عن ذهاب بعض وسائل الإعلام المغربية لاسيما المقربة من الحكومة إلى إتهام بعض قادة الحراك بالإرتباط بجهات خارجية معادية للمغرب بهدف زعزعة إستقرار الدولة والنيل من التجربة الديمقراطية والتعايش السلمي الذي يعيشه المغرب وخلق حالة مشابهة للأوضاع في سوريا أو العراق أو ليبيا.
وبنظرة موضوعية فإن التركيز على العوامل الإقتصادية والإجتماعية للحراك الشعبي في الريف العربي تبقى قاصرة عن تحليل الأحداث والوصول إلى أبعادها الحقيقية، إذ أن ثمة عوامل وأسباب أخرى تقف وراء ذلك الحراك بعضها تأريخية وأخرى هوياتية، فضلاً عن عدم إستبعاد نظريات المؤامرة التي تبدو غير بعيدة عن تلك الإحتجاجات، ولعل رفع علم جمهورية الريف من قبل قادة الحراك، ورفع علم أسبانيا والحكم الذاتي وشعارات (الإستعمار الأوربي) حتى مع تجاوب الحكومة المغربية مع مطالب المحتجين كلها مؤشرات خطيرة على أن تلك الإحتجاجات ربما تخرج عن نطاقها السلمي القانوني والتعويل على المقاربة الأمنية عبر المواجهة مع الحكومة والأجهزة الأمنية، مما ينذر بعواقب خطيرة على وجود الدولة المغربية وإستقرارها لاسيما وأن الأجهزة الإستخبارية المغربية قد توصلت إلى معلومات أفادت بوجود علاقة بين بعض قادة الحراك وجهات خارجية.
إن البحث عن الاستقرار وعدم إنزلاق الدولة المغربية إلى الهاوية والإنجرار خلف شعارات آنية، ونظراً لظرفية ومكان حدوث تلك الإحتجاجات وطبيعة المناخ الإقليمي والدولي كلها عوامل تقف بالضد من إتساع نطاق تلك الإحتجاجات وتمددها إلى مناطق أخرى، وهو ما يفرض على الحكومة المغربية إنتهاج اسلوب يتسم بالحكمة والعقلانية ولغة الخطاب المعتدلة كونه الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذا الحراك، والتعامل بلغة الحوار وليس الإقصاء مع قادتها سواء كانوا معتدلين أو متشددين من منطلق إنهم أبناء المغرب في كل الأحوال طالما أن المطالب التي ينادي بها أبناء الريف المغربي لا تتجاوز كونها حقوق عادية يجب على أي دولة أن توفرها لمواطنيها دون حراك أو مظاهرات.
ولعل ما يشجع هذا التوجه هو إدراك الحكومة والشعب المغربي لحجم الدمار والتراجع الذي أتسمت به البلدان التي شهدت موجة التغييرات السياسية منذ عام 2011 ولحد الآن، مما يحفز الجميع على العمل لتجاوز الحالة الشاذة التي تعيشها البلاد، والحيلولة دون تحول المغرب إلى دائرة صراعات، ولعل ما يشجع ذلك أن التطور التأريخي للدولة المغربية أورث نظامها السياسي تركيبة من مجالين سياسيين أحدهما تقليدي وثانيهما مؤسسي ناشئ وحديث، إذ نجد أن القضايا السياسية الكبرى في مراحل إشتداد الأزمة بوجه خاص كان يتم بحثها لا في المجال المؤسسي الحديث (الحكومة والبرلمان)، وإنما في المجال التقليدي أيضاً عبر الحوار المباشر أو المفاوضات بين الملك والمعارضة الوطنية، مما يعني أن الوصول إلى بناء الثقة المتبادلة والحوار الهادئ ربما تكون هي العقلية السائدة لتجنيب المغرب الإقتتال الداخلي والإنقسام المجتمعي.
اضف تعليق