بذل علماء النفس سنوات طويلة من حياتهم، ربما اكثر من ثلاثين عاماً لإزالة الطابع السلبي من الامراض النفسية واستبدالها بمعالجات ايجابية مستفيدين من حوافز تدفع نحو استخراج كوامن القوة والثقة والعزم من النفوس، تجعل الانسان المصاب، بدلاً من الصراع مع الحالة السلبية لحالته النفسية، ينطلق في رحاب الانتاج والابداع والتغيير.

وقد نجح العلماء في "علم النفس الايجابي" بإفادة الشعوب بتجاوز أزماتها النفسية وتحويل الحالة السلبية في نفوسهم، الى منطلقات ايجابية مكنتهم من تغيير واقعهم الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، بيد أننا في العراق نلاحظ ما يثير الاستغراب، فإضافة الى العامل الداخلي في ترسيخ المشاعر السلبية، نجد ثمة عاملاً من المحيط الخارجي ايضاً، ومن شريحة تعد نفسها متعلمة ومثقفة، فهي بدلاً من الإرشاد بعدم السقوط في الحفرة او مواطن الخطر المميت، تعكف على رثاء الضحايا او نثر الدموع الى جانب ذوي الضحايا!

الانفجارات الدامية التي تحصد مئات الأرواح البريئة في العراق، طيلة السنوات الماضية، تحصد معها كل المشاعر الايجابية التي ربما تكون عالقة في نفوس البعض إزاء بلدهم، بسبب ضعف الاجراءات الامنية وإنشغال الحكومة بمشاكلها السياسية او تحدياتها الخارجية، لاسيما اذا تزامنت هذه الانفجارات مع مناسبات دينية، مثل ايام شهر رمضان المبارك، فأول شعور ينتاب المواطن العراقي الذي يفقد عزيزاً له في حادث انفجار؛ الضِعة والخذلان، لسهولة تنفيذ هذه العمليات الارهابية وتعرض الناس للموت في كل لحظة.

في ظل مشاعر متوترة كهذه، ما الذي يفترض علينا فعله؟ هل المزيد من إثارة مشاعر الاحباط واليأس، وترديد مقولة أن الشيعة المستهدفين يذبحون بسهولة دون رادع، أو ان دم العراقي رخيص؟!

عجز متعلّم، من مشكلة نفسية الى اشكالية ثقافية

كان علماء النفس طيلة العقود الماضية، يتصورون – وعلى درجة من الصواب- أن ما أسموه بـ "العجز المتعلّم" الذي يفاقم المشاعر السلبية في النفس، يعود بسببه الرئيس الى السلطات الديكتاتورية الحريصة على إذكاء هذه المشاعر، من خلال استنساخ العجز والاحباط، او ما يسمّى بـ "العجز المتعلّم"، أي انتشار مشاعر العجز بشكل تعليمي بين افراد المجتمع، فتكون حالة اجتماعية عامة تدفع فقدان السيطرة والاستسلام للأمر الواقع، وهذا ما "تغرسه أنظمة القهر والهدر كي يستتب لها زمام السلطان... والأخطر في الامر هو أن العجز المفروض من أنظمة القمع اذا طال أمده وسُدت آفاق الخروج منه، يمكن ان يتحول الى عجز داخلي تترسخ معه هوية الفشل، عندها تتعطل كل الطاقات الحيّة ومبادرات تغيير المصير الذي تخذ طابع المقدر المكتوب، وبدلاً من توجه العدوانية الى قوى القهر والقمع، فانها ترتد ذاتياً على شكل تبخيس وإدانة". (إطلاق طاقات الحياة/ مصطفى حجازي)

والعراق اليوم يخلو من نظام ديكتاتوري، ولكنه يخلو ايضاً – الى حد ما- من مبدعين في مجال الفكر والثقافة لإبعاد افراد المجتمع، ولاسيما المتضررين والملكومين من العمليات الارهابية من عواصف التأثير السلبي المقصود من الجهات التي تقف خلف هذه العمليات الارهابية، ولذا نجدنا في مرحلة متطورة من الازمات النفسية التي بحثها العلماء طيلة عقود مضت، فمن الانتاج الفردي والمجتمعي لمشاعر العجز عن تحقيق شيء في الحياة، نكون أمام جهة منتجة بما لم نتوقع، وهو لفيف من الكتاب والاعلاميين والسياسيين ممن يجدون في إثارة المشاعر السلبية وسيلة لتطييب الخواطر، وهم في ذلك يتعكزون على شعار "الحقيقة" فهذا هو حال الشيعة في العراق! وهذا هو حال الحكومة بل والدولة العراقية! فما عسانا ان نفعل؟!

تضيع قدراتنا من حيث لا نشعر

ان تكريس مشاعر الاستضعاف وسط مشاهد الأشلاء المقطعة في الشوارع والاسواق، يضع العراقيين أمام مآلات عدّة لا تقل خطورة عما يتعرضون له في الوقت الحاضر، أبرزها تضييع القدرات العلمية والانسانية الى جانب الامكانات المادية للبلد في أجواء مشحونة بالسلبية والسوداوية، فكيف يفكر الانسان العراقي وتحديداً الشيعي، بالابداع والتطور والتقدم وهو يشعر أنه كالشاة معرض للذبح في كل لحظة؟!

يبدو أننا أمام تكرار تجربة الحصار الاقتصادي في تسعينات القرن الماضي عندما بحث الخبراء سبب عدم تفكير الناس بالانقلاب على نظام صدام واستغلال حالة الضعف فيه، وكان الجواب السريع؛ في حاجتهم الى الطعام والدواء اكثر من السياسة والحكم، فالذي لا تكاد يده تصل الى لقمة عيشه، كيف تصل الى كرسي الحكم مهما كان مهترئاً؟!

بمعنى؛ أن في عقد التسعينات كان الشعب العراقي مكبّلاً اقتصادياً ومعيشياً، واليوم مكبّل أمنياً، ولكن حسبنا الفارق الكبير في الظروف الموضوعية الحاكمة، و وجود امكانيات هائلة لفعل الكثير من قبل الشريحة المثقفة ومن مؤسسات ضخمة وفاعلة في العراق، فليس من العدل وجود نعمة الحرية والامكانات المادية والعقول النيرة، ثم يكون شعور الانسان العراقي مثل شعور المحكوم عليه بالاعدام.

ولا أجدني بحاجة في هذا الحيز المحدود الحديث اكثر عن "علم النفس الايجابي"، فله مجال بحث خاص من شأن المختصين والباحثين الخوض فيه والخروج باستنتاجات مفيدة، بيد ان المهم حالياً إدارة المشاعر المتوترة بفعل الضرب العنيف والدموي للجماعات الارهابية، ومن يقف خلفها من جهات اقليمية ودولية تريد بالدرجة الاولى من دعمها للعمليات الارهابية، قتل روح الحياة والأمل في نفوس العراقيين.

اضف تعليق