عندما نتحدث عن التقدم في الحياة، في المجالات كافة، فنحن نتحدث عن التفوّق ليتسنّى لنا رفع الخطوات الثابتة نحو الأمام، وإلا ما يكون الفرق بين الشخص العالم والعامل والمفكّر والمبدع، وبين من يفقد هذه كلها او بعضها؟ لذا يكون الحرص دائماً على تسجيل أعلى معدلات التفوق والتميّز بين الافراد والجماعات والشعوب لتحقيق الأفضل في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والتكنولوجيا وحتى سائر العلوم ذات التأثير على مؤشر التقدم والتطور.
ومن أجل ذلك نلاحظ، كلما شهدت شعوب؛ مثل الشعب العراقي وأمثاله، فرصاً للقفز من الحرمان والتخلف الى حيث التطور والتقدم، كلما التهبت مشاعر التفوق والتسابق بين الافراد داخل هذا البلد في ركائز التقدم المعروفة وهي: العلم والعمل والمال، فهذا يتقدم في تحصيله العلمي والحرص على نيل الدكتوراه، بينما ذاك يسعى جاهداً لتحقيق الانجاز؛ سواءً كمّاً او نوعاً في مجالات مختلفة، فيما يبذل الآخر ما في وسعه لكسب اكبر نسبة من الارباح في استثماراته وأعماله، وربما يسجل البعض تفوقاً ملحوظاً في الجمع بين اكثر من ركيزة في وقت واحد او جميعها.
السؤال الجوهري هنا
من الذي سيتقدم ويتطور من خلال التفوق في العلم والعمل والمال؟ هل الفرد الواحد في المجتمع؟ وإن أجمعنا على أحقية الانسان الفرد في التفوق والتطور في الحياة، كيف نضمن توظيف مجموع التفوقات والنجاحات في خدمة الصالح العام؟
في كتابه، "طريق التقدم" يضيف سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- ركيزة أخرى للتقدم، وهي التواضع، مؤكداً "إن كلاً من العلم والعمل والمال، لا يثمر ذلك الثمر النافع والمفيد، إلاّ إذا كان إلى جانبه تواضع وتفاهم، لذلك فإن التواضع والتفاهم من الدعائم المقوّمة اللازمة للأمة التي تريد التقدم، وتطمح في الرقي إلى المعالي".
ومعروفٌ أن التواضع، إحدى الصفات والخصال الاخلاقية الكريمة التي يدعو اليها علماء الاخلاق لتكون في مقابل الكِبر والتعالي، وهي تفيد في تقويم السلوك الفردي وفي تدعيم النظام الاجتماعي وتحد من حالة المكابرة والتطاول التي من شأنها تهديد الاستقرار بتقليل التعايش والتسامح والتواصل بين الافراد، وقد جاءت التأكيدات الشديدة في القرآن الكريم و في الروايات عن النبي الأكرم وأهل بيته المعصومين، عليهم السلام، بيد أن الانعطافة الابداعية في هذه الخصلة الاخلاقية، مدخليتها في التقدم الحضاري للشعوب والأمم، وليس للأفراد وحسب، وهي الثغرة الخطيرة التي وضع الامام الشيرازي يده عليها وأشّر الى هذا الخلل النفسي ثم الاجتماعي والحضاري الذي كان وما يزال يشكل احد الاسباب الرئيسية في تخلفنا وحرماننا من خطوات التقدم التي طواها الآخرون.
من الناحية العملية على ارض الواقع، يعجز الثروة والاستثمارات والرساميل وايضاً المراتب العلمية من تحقيق انجاز يفيد الجميع يؤدي الى تقدم بلد وشعب بأسره، ولطالما نرى في بلادنا امتلاك البعض لأحدث السيارات وأفخم البيوت وغير ذلك من مظاهر التفوق المادي، فما أكثر ما نرى الاستاذ الجامعي الكبير أو صاحب المنصب الرفيع مع سيارته الفارهة وبيته الكبير وأمامه الشارع غير المعبد و المليئ بالمستنقعات والنفايات وغير ذلك من المظاهر السيئة التي تكشف سوء الحال العام ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
يكفي أن نتخذ فريق كرة القدم في الاندية المحترفة بالعالم، وكيف تلتصق الكرة بشباك الفريق المقابل، في مشهد يثير في نفوس حتى غير الرياضي وغير المتابع لكرة القدم، الشعور بالارتياح والغبطة، عندما تنتقل الكرة من لاعب الى آخر ضمن خطة محكمة مُعد لها سلفاً، حتى تصل الى من يكون المسدد للضربة القاضية بأقصى درجات النجاح، فحتى وإن كان في الساحة الهداف الشهير واللاعب المرموق، ولكن اذا لم يكن في المكان المناسب للتسديد، لن تصله الكرة، بل وليس من حقّه المراوغة الفاشلة وتضييع الفرصة على الفريق الذي يمثل نادياً كبيراً ومنفقاً بمئات الملايين، وربما يكون الفريق منتخباً وطنياً ويرتبط الأمر بسمعة بلد بأسره.
فمن الذي يدفع هؤلاء اللاعبين، وربما كل واحد منهم يتقاضى ملايين الدولارات، وكذلك الحال في مجال التصنيع والانتاج، لأن يفكروا بشكل جماعي وأن تكون جهودهم مصهورة ضمن بوتقة واحدة؟
إنه التفكير الجماعي ضمن خطة تنموية وإصلاحية اتبعتها الدولة التي سجلت تقدماً حقيقياً لاسيما في المجال الاقتصادي مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، فضلاً عن الدول الغربية، فالشعوب هناك تنفذ هذه الخطة على أمل التغيير نحو الأحسن واضعة ثقتها في قادة مفكرين ومبدعين، بينما في بلادنا نمتلك قاعدة اخلاقية عميقة الجذور في الفطرة الانسانية، فالتواضع يمنح صاحبه المضي قدماً في طلب العلم والاتقان في العمل وبذل امكاناته المالية بما يحقق المصلحة العامة، وذلك من خلال كسب ودّ الناس ومساعدتهم وتفاعلهم في هذا المجال، فهذه الصفة الاخلاقية الحسنة تجعل حديث العالم والعامل والثري عن التطور والتقدم وأنهم الأجدر والأقدر على التأثير على مسار الاحداث في بلدهم، ذات مصداقية عملية على ارض الواقع يلمسها الناس بكل حواسهم.
اضف تعليق