شواهد التاريخ تؤكد أن بمقدار تمسّك الأمم بقيمها الدينية وبمقدار إيمانها بما جائها من رسالة ورسول، بنفس المقدار توفر لنفسها الحرية والأمان من ضغوط الحاكم الطاغية وتهديداته، فالرسالات السماوية إنما جاءت الى البشر لتنظيم حياتهم بما يتوافق مع الفطرة الانسانية، وبمقدار الابتعاد او التنكّر، تكون الويلات والكوارث، على يد الحاكم صاحب المبدأ؛ {لا أريكم إلا ما أرى}.
ولعل قصة اليهود مع انبيائهم على مر التاريخ تكون مثالاً بارزاً على كيفية خسارة قيم ومبادئ سامية أمام رغبات عابرة او اجتهادات قاصرة واستبدالها بقيم التخلف مثل العنصرية والعصبية والأنانية، فدفعوا بأنفسهم الى حتفهم في مجازر ومحارق خلال فترات زمنية متفاوتة.
ولكن كيف يحصل هذا؟ وكيف يستبدل العاقل ما هو أدنى بالذي هو خير؟!
بما أن الدين والعقيدة من عناصر القوة في الأمم، فانه يتعرض لمزاحمة العناصر الاخرى وأهمها؛ المال والسلطة، واذا كانت العقيدة السماوية عبارة عن ثوابت وأصول غير قابلة للتغيير والاستبدال، فان المال والسياسة على العكس تماماً، يخضعان للمتغيرات، ولذا جاء التحذير في الاسلام من هذين العنصرين، وأن يأخذ الانسان بلجامهما ويخضعهما الى معايير الدين، وإلا حصل العكس؛ ويكون الدين في خدمة المال والسياسة.
ومن أجل ذلك نقرأ في القرآن الكريم تأكيدات وافرة على ضرورة التزام منهج القوة والحزم في الخطاب الديني، وأن لا يخاف الانسان في الله لومة لائم، وأن تكون الخشية من الله وليس من الناس وهكذا توصيات مؤكدة عديدة، وما سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ببعيدة عنّا، وما عاناه خلال الثلاث عشر سنة في مكة وسط الضغوطات وتحديات رهيبة، وعلى نفس النهج سار أمير المؤمنين، عليه السلام، من أول يوم واكب فيها الرسول والرسالة وحتى أخر لحظة من حياته، حيث وضع القيم الدينية فوق كل شيء.
وعندما كان النبي يقاتل على التنزيل ومن بعده الامام علي، يقاتل على التأويل، فمن أجل التأكيد للبشرية والاجيال أن القاعدة الدينية الصلبة هي التي توفر لهم السعادة الحقيقية، وليس شيء آخر، وعندما كان الامام علي، يحمي الحديدة ويُحسس أخاه عقيل المكفوف البصر، بحراراتها، لم يكن قصده منعه من العطاء او إبقائه فقيراً جائعاً، أو يريد منع واليه على البصرة (عثمان بن حنيف) من التواصل مع الناس والاستجابة بدعواتهم بتلك الخطبة المجلجلة لمجرد جلوسه على مائدة عامرة لأحد وجهاء المدينة، وغيرها من الامثلة والمواقف، إنما القضية تعود الى معرفة العقيدة التي ينتمي اليها الانسان وما تحمل من قيم ومبادئ، وأنها غير قابلة للمساومة وغير قابلة للقدّ، يقول الامام الصادق، عليه السلام: "المؤمن كالجبل وإن الجيل ليُقدّ منه والمؤمن لا يُقدّ منه".
ولكن؛ تبدأ المشكلة عندما تستمر تلك الموائد على مر الزمان، وهي تستقطب أهل المال والحكم والتأثير في المجتمع، وقد يكون بينهم العلماء والفقهاء و الادباء، وفي تلك المجالس تغيب القيم والمبادئ في حرارة الجو المشحون بالمغريات، وفي مجالس كهذه ينطلق المزاد على التدين بين هذا وذاك مقابل حفنة من الاموال وشيئاً من الامتيازات والمناصب.
وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" نجد الامام الراحل السيد محمد الشيرازي، يخصص فقرة خاصة لأخلاقيات الحركة الاسلامية الطامحة للتغيير العالمي، تحت عنوان: "الصمود"، مشدداً على أن "القائمين بالحركة يجب ان يكونوا صامدين، ولايكونوا رخوين هشّين..."، وفي مكان آخر يشير الى "أن الصمود من القائمين بالحركة لا يكون لأجل أن يمدحهم الناس، او ان يصفقوا لهم ويكرمونهم الآن او في المستقبل... وإنما الصمود وتلقي الصدمات من الاعداء والاصدقاء برحابة صدر من أجل الله وحده". بمعنى أن الصمود والتحدي ربما لا يسمع به أحد من الناس، من موقف داخل السجون –مثلاً- او في احدى دهاليز السياسة والمخابرات، ولكن؛ الهشاشة والمداهنة يلتقطها العدو يجعلها مصداقية لعمله امام الناس، فهو الذي يستفيد فيما يخسر المداهنون.
واذا نسمع بالمتاجرة بالدين علينا العودة الى اول يوم تمت فيه المداهنة بهذا الدين في تاريخ الاسلام، وكيف تمكن معاوية من شراء دين كبار القوم بالأموال، ولعل ابرزهم سمرة بن جندب، الذي شرط عليه نصف مليون درهم ليتقوّل على الرسول الأكرم بحديث يذّم فيه الامام علي، فسأله معاوية عن علّة الثمن الباهض، فقال له: لم أبعك حديثاً، إنما بعتك ديني! فعندما تتم شراء محدّث او عالم او مفتي مثل شريح وأشباهه، سيكون الطريق سالكاً وسريعاً نحو المتاجرة بالدين.
وليس بالضرورة ان تكون المساومة على الدين كله، كما كان في الازمان الماضية، بل ربما يكون على أجزاء منه او على أحد الاصول والثوابت، ففي الوقت الحاضر ربما يكون الجهاد مستهدفاً، او الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحتى المسائل المتعلقة بالمرأة، ومحاولة المداهنة حولها وتمييعها او تحويرها وايجاد مخارج تؤدي بها الى غير مقصدها الحقيقي.
وإذن؛ يمكن القول: أن الاتجار بالدين او المظاهر الدينية، لا علاقة له بوجود الدين او المتدينين في الحكم من عدمه، وإلا فان الانظمة السياسية في بلادنا العربية والاسلامية، في القرن الماضي، لم تحمل صفة الحكم الديني، بل كانت معظمها ممعنة في العلمانية ومحاربة الدين، بيد أنها لم تسمح بوجود خط أحمر للدين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية على وجه التحديد، وعندما يزول هذا الخط الفاصل امام الناس من الطبيعي ان نجد إمام الجماعة في المسجد، كأي موظف في الدولة، والفرائض الدينية مجرد طقوس ظاهرية جميلة.
اضف تعليق