في ذاكرة نكباتنا المتواصلة منذ قرن صفحات طغت فيها صراعات وخلافات ومنافسات بعض العائلات التقليدية على النفوذ أو غيره، على الصراع المركزي مع المشروع الصهيوني المسنود من الانتداب البريطاني، وكان لكل عائلة حلفاء وأنصار ورجال من العائلات الأخرى، وقد استغل الانتداب البريطاني الماكر الخبيث تلك النعرات؛ فعمل على إذكاء تلك الصراعات، وتوجيه مسارها بما يضمن له أكبر نسبة من الراحة وهو يمكّن المستوطنين اليهود في أرضنا، ووصل الحال ببعض المتنافسين والمتصارعين إلى اللجوء إلى هذا الانتداب البغيض استقواء على منافسيهم.
وكانت النتيجة أن التضحيات والثورات العظيمة لم تؤت أكلها؛ وهنا لا أقول أننا لو كنا موحدين ولم تكن صراعات بين العائلات المختلفة لأوقفنا المشروع الصهيوني، ولكانت إسرائيل غير موجودة، لا صراحة؛ فنحن كنا أمام مشروع مدعوم من قوى الشرّ الكبرى وفي مقدمتها بريطانيا ثم أمريكا، إضافة إلى فرنسا وغيرها، ونتعرض للخذلان من الأنظمة العربية الرسمية الصامتة أو العاجزة أو المتواطئة، ولكننا وبالتأكيد لو أجلنا تلك الصراعات والمنافسات وانشغلنا بالتصدي للمشروع الصهيوني، والانتداب البغيض، لكانت خسائرنا أقل بكثير مما كانت، ولكان المشروع الصهيوني قد تعرقل نسبيا في تحقيق مخططاته، فقد كنا أمام معادلة الخروج بأقل الخسائر، لا تحقيق المكاسب والانتصارات، فزدنا خسائرنا بأيدينا فوق ما ألحقه بنا الانتداب والعصابات الصهيونية من خسائر ونكبات!
لعلنا لفترة أدركنا ما صنعناه بأنفسنا عبر الانشغال واستنزاف الطاقات في التنافس ببين العائلات والعشائر، فتوجهت جموع غفيرة من شباب ورجال ونساء فلسطين نحو الأحزاب والجبهات والحركات المختلفة التي كانت تزخر بها الساحة العربية، بتوجهاتها الأيديولوجية المختلفة.
ومع كل ما اعترى تلك الأحزاب من خلل، وغلبة الشعارات الرنانة على الفعل الحقيقي، وحتى صراعات وكراهية فيما بينها، فإن الانخراط في الحياة الحزبية يظل أفضل لشعب منكوب من التقوقع في الإطار العشائري أو الجهوي، كون الأحزاب حالة متقدمة متطورة للمجتمعات، وتضم في جنباتها أبناء العشائر الكبرى والصغرى، وينصهر في بوتقتها عدة فئات، بل كل الفئات الاجتماعية، بحيث يكون لهم هدف أو أهداف كبرى، هي بلا شك أكبر وأهم من اهتمامات وأهداف أي عشيرة أو عائلة؛ فاهتمامات العائلات والعشائر المتنافسة تظل محدودة وسطحية، وأيضا لا تستطيع العائلات المتنافسة التصدي لمشروع استيطاني اقتلاعي ما لم يكن لها جبهات وأحزاب تجتمع على هذا الهدف.
((هبت النار بشاير بشاير، وهالشعب واحد مش عيل وعشاير)) هذا مقطع من أغاني فرقة العاشقين حفظه الطفل الصغير والشيخ الكبير، وكانت الألسن تردده بلا كلل أو ملل، وذلك حين أدرك الناس أن الاحتلال يريد أن يدخل على خط الخلافات بين العوائل ويتبع سياسة سلفه البريطاني المعروفة (فرق تسد Divide And Conquer/) فاستنفروا فطريا أولا، وبما تولّد عندهم من وعي سياسي نجم عن انخراطهم بالحركات والأحزاب والجبهات بمختلف تلاوينها ثانيا، وتصدوا لمخططات الاحتلال.
كيف ننسى فشل مشروع (روابط القرى) البغيض في وقت لم يكن لدينا هذا الكم من المتعلمين الجامعيين؟ لم يكن لدينا لا أسلحة بيضاء ولا أسلحة نارية، بل لم تكن انتفاضة الحجارة قد بدأت، ولكنه الوعي واستشعار الخطر، والتنبه بأن الاحتلال عدو للقرية والمدينة والمخيم على حد سواء وإن أظهر غير ذلك.
ثم جاءت انتفاضة الحجارة لتقتلع ما تبقى من رواسب العائلية والجهوية، وصار القائد والكادر أحيانا ابن عائلة صغيرة فقيرة أو متوسطة الحال، أو ابن منطقة عدد سكانها أقل من مناطق أخرى قبلته ورحبت به قائدا ينظم الإضرابات ويقود الاحتجاجات، ويحل المشكلات.
افتتح سجن النقب فكان كالجامعة التي جمعت ابن غزة مع ابن جنين مع أبناء نابلس وبيت لحم، فتقاسموا ألم المحنة، وعاشوا ظلم السجان سويا.
وحتى لا أكون مفرطا أو طوباويا متهما باللاواقعية أقول: نعم كانت تحدث احتكاكات وصدامات بين المكونات من عشائر وعائلات، إضافة إلى الخلافات بين أبناء منطقة ومنطقة أخرى، ولم تكن نقية من الضغائن، ولكن وبلا ريب فإن تلك الخلافات ظلت تحت السيطرة، ولسنا منزهين إذا كان الأوس والخزرج قد تشاجروا والنبي-صلى الله عليه وآله وسلم-بين أظهرهم، والأهم أن الولاء للتنظيم والحزب ظل هو الأساس، ولم يصل الحال إلى اعتبار الخطر يأتي من عائلة أو منطقة في تفكير ووعي أي عائلة أو منطقة، بل كان المختلفون يرون أن الاحتلال هو العدو الأول ويدوسون على خلافاتهم في مواجهته.
الآن نحن في حالة خطرة، ونواجه كارثة وطنية؛ حيث يتراجع بتسارع رهيب دور الحزب/الحركة/الجبهة لصالح العشائرية والجهوية، ولا أعفي الفصائل الفلسطينية من دورها في الوصول إلى هذه الحالة السيئة، سواء بسبب الانقسام، أو لأنها لم تحسن تقديم وطرح شخصيات تقسم على جميع أو أغلب مكونات شعبنا، فلجأت إلى المحاصصات العشائرية والجهوية.
إن طغيان هذه الظاهرة سبقته مسألة ما يسمى (التكنوقراط) وهو مصطلح يعني الكادر الفني المختص، ولكن ألا يوجد في فتح وحماس والجهاد والجبهات أطباء ومهندسون وأكاديميون مشهود لهم بالكفاءة والتميز؟ فلم ربط الكفاءة بحالة (غير منتمي) ؟ مع استنكاري لتصرفات الفصائل التي تجعل الولاء مقدما على الكفاءة، ولكن تقديس (التكنوقراط) بحيث جعله حزبا جديدا هو أمر سيء أيضا... والآن جئنا إلى حالة تلبس فيها العشائرية وتوازناتها واعتباراتها عباءة الأحزاب والفصائل في مشهد سوريالي ينذر بكارثة وطنية حقيقية.
لننظر حولنا؛ لم يعد هناك عراقيون، هناك شيعة وسنة وأكراد، والسوريون واليمنيون في ذات السياق، ولكن هناك إسرائيليون من أصول ومنابت شتى انصهروا في كيانهم القائم على أرض اغتصبوها من أناس يفترض أن ينحوا كل خلاف جانبا.
لا مجال لاستثارة العواطف خاصة أن هناك من يشعر بالرضا وهو يرى العشيرة تتغلب على الفصيل، ويرى في الأمر ثأرا من أخطاء الفصيل، والمسكين لا يدري أن الارتداد نحو العشيرة هو ارتداد إلى الخلف، لأنه سيتلوه –بلا أدنى شك-ارتدادات أخرى يشجعها الاحتلال، ويعمل على تهيئة الظروف لها، حتى نصل إلى حالة يعيش الواحد منا انقساما ذاتيا (انفصام شخصية)!
ألا يكفينا الانقسام السياسي والجغرافي؟ ألا يكفينا الحواجز التي تمزق أرضنا وتتحكم بمسار حياتنا اليومية؟إلى أين نحن ذاهبون؟ إننا نزيد الانقسام والفرقة فيما بيننا حين نقدم المكونات الأولية على الجوامع الوطنية، أي أننا نقوم بعملية تفكيك ذاتي، في لحظة تتقاطر فيها دول كبرى وصغرى للإجهاز على ما تبقى من قضيتنا.
فقط أذكر بأن مجتمع المدينة المنورة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شرع في بناء الدولة المدنية بمفهوم عصرنا، وأضعف وفكك المجتمعات القائمة على العصبيات القبلية والجهوية؛ فالأوس والخزرج صاروا أنصارا، يساكنهم مهاجرون من قبائل شتى، ومعهم من ليس عربيا ولكنه يوصف بأنه من أهل البيت (سلمان الفارسي) وفيهم بلال الحبشي، وبهذه التركيبة انتصروا على من كانوا يعظمون القبلية ويجعلونها أساسا ومعيارا، فإذا بهم يرون الحبشي يصعد مؤذنا فوق الكعبة، وهو شرف ما ناله قرشيون كثر...أتحدث عن هذا لأننا لن نضل إذا اقتدينا بهدي النبي.
على الحكماء من الفصائل ومن النخب وحتى من العشائر أن يوقفوا هذا التدحرج نحو كارثة تضاف إلى كوارثنا المتلاحقة.
اضف تعليق