يصعب على الإنسان أن يحجّم الترفّع والتضخّم الذاتي، خصوصا عندما يحقق نجاحات بائنة، في العلمية، والفقه، والخطابة وسواها.. فعندما يكون محبوبا مرغوبا ومطلوبا من مريديه، هذا يدفع به الى حافة النرجسية، فيرى حجمه أكبر من الآخرين، وأهم منهم، ودليله على ذلك نجاحه وتميزه واختلافه عن غيره، ولكن لماذا لم يتمكن النجاح من قلب الموازين في القالب التكويني للفقيه المقدس، السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته)؟.
كيف تمكنت هذه الشخصية التي تقوم على القواعد البشرية، من تحقيق أعلى درجات التوازن بين الروابط العلمية، والنفسية، والتربوية التي تدخل في تكوينه الفكري السلوكي؟، لقد قيل فيه الكثير من كلمات وأوصاف الحقيقة، فالفقيد آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدّس الله نفسه الزكية كأبيه سلطان المؤلفين قدّس سره، لقد كان موسوعيّ الفكر وغائر العمق ونافذ البصيرة وواسع الصدر وعريض الابتسامة.. وكان رجل العطاء والإيثار، وترجمان الحبّ والصبر وملاذ الموالين وكهف المحتاجين وذخر الحكماء والمتكلمين.. هذه الذخائر النفيسة لا يتمكن من جمعها في مكنون الذات إلا من كان يمتلك الخصال البنّاءة.
ومما جاء في الفقيه الشيرازي بقلم ولسان حجة الإسلام الشيخ سعيد السعيدي دام عزّه عن صفات السيد الفقيد العلمية والأخلاقية ومن حياته المباركة قوله.. لقد امتاز الفقيد الغالي آية الله السيد محمد رضا الشيرازي قدّس سرّه بخصوصيات راقية في التقوى والورع والعلم والأخلاق الفاضلة.. فمن الناحية العلمية فإن مؤلّفه (الترتب) الذي حوى بحثاً رائعاً في مسألة أصولية معقّدة يكفي على بيان رقيه العلمي.. ومن الجانب الأخلاقي فإن حبّ الكثير من الناس، سواء الذين التقوا به أو شاهدوه عبر شاشة التلفاز، والقريبين والبعدين لخير دليل على خلقه الرفيع.
يُضاف الى ذلك توازنه النفسي الذي يمكننا الاستدلال عليه بدلائل غنية بالغة الثراء، تُستقى بوادرها من حالة الانبساط وانفتاح السرية وبهاء الحضور واشتداد النقاء وصفاء السجايا وروعة الكلام والسلام، هذه الصفات التي تلازم الفقيه الشيرازي نهارا وليلا قعودا وجلوسا، ليست مقحمة على شخصيته أو مصطنعة فيها، كلا إنها أقرب الى الملًكات التي تنشأ مع الخلق، فهي موجودة في تركيبته التكوينية ومقرونة بخلقه، لا يصطنعها اصطناعا، وهذا ما لمسه الجميع في هذه الشخصية المثالية، وقدرتها على تحقيق ذلك التوازن المدهش بين العلمية والاستقرار النفسي، والأخلاقية النادرة التي يتميز بها.
ما هو منبعها يا تُرى، وكيف تحققت، من بناها في هذه الذات المثالية في علميتها وحضورها النفسي الأخلاقي المتوازن، لا شك أن البيئة الفقهية العلمية الثقافية لها تأثيرها وحضورها في هذه النتائج الفذة على ارض الواقع، حيث أعطى المسار الفقهي العلمي التربوي للفقيه الشيرازي إشارات كبيرة على خصوصية هذه الذات في البناء والإنتاج الفقهي العلمي الأخلاقي المنسجم، ليكوّن مزيجا مدهشاً يطبع مسيرة الفقيه الشيرازي طيلة نصف قرن أمضاها في الدار الأولى.
إنها رحلة بليغة بآثارها وإرثها، تمخضت عن عشرات الخطب والمؤلّفات والمحاضرات العلمية التربوية الفقهية الاجتماعية الأخلاقية، فقد خاض الفقيه الشيرازي في أدق التفاصيل الحياتية للناس، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، فلم يستثن شريحة او فئة او جماعة، موجها ما تفصح عنه سريرته وعقله وكلماته الى الجميع بلا استثناء، فكان خطابه إنسانيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
ساعدته على تحقيق مثالية المسيرة، عملية موازنة نادرة بين العلم والنفس والأخلاق، وعندما تتم السيطرة على هذا الثالوث الذي يشكل حجر الزاوية في البناء الذاتي، حينئذ سيظهر المكنون في ملكوت الأعماق، وتنطلق الأفكار العظيمة لتجسد ما يرتئيه الفقيه الشيرازي من حلول ومعالجات، وما يقترحه في مجال البناء التربوي الأخلاقي الأكثر تأثيرا وحضورا، هنا ليس أمامنا إلا أن نستذكر بعظيم الفخر والامتنان تلك المحاضرات الخلاقة في مجال تربية الطفل.
لم ينس الفقيه الشيرازي الأطفال، عاش معهم، تكلم واستفسر وضحك وتداول الهموم التي يعيشها الطفل، شارك الآباء والأمهات عقولهم، اقترح عليهم باقات لطيفة من المقترحات سهلة التطبيق، جلّها يتمحور في البحث عن حقيقة نفسية الطفل وعقليته وأحلامه وكل المتعلقات والمتطلبات الطفولية التي ينبغي التعامل معها بأكثر السبل توازنا وتفهّما، وقد حرص الفقيه المقدس على التكلم بمستوى الوسط المستهدَف، وقدم لمن يهمهم الأمر في هذا المجال أفضل وأقرب الأمثلة الواقعية لتحقيق التربية الأرقى للأطفال.
في الجانب العلمي ركّز الفقيه الشيرازي، على الجوهر العلمي للخطيب او المعلم او الأب أو المربي وكل إنسان مسؤول، فهؤلاء جميعا في نظر الفقيه المقدس أقطاب التربية والتعليم، بأنواعه المختلفة، كالتعليم المدرسي، أو الديني، أو العائلي، هذه البيئات التربوي هي التي تنهض في عملية بناء الطفل تربويا وأخلاقيا وعلميا.
في الأخلاق قدم الفقيه الفقيد حزمة من المؤلفات والكلمات والخطب والمحاضرات، التي أسبغ عليها المزيد من علميته ورؤيته، وانطباعاته الأكثر خصوصية في هذا المجال، فجاءت حقا غاية في الانتظام والفائدة والغنى والعمق، وللوهلة الأولى تكسب المستمع او القارئ أو المشاهد، فالسلسلة الأخلاقية العلمية التربوية التي حرصت على تقديمها بعض الفضائيات للفقيه الشيرازي، أتت بنتائج باهرة، جعلت الكثيرين يتوجهون من أصقاع ومدن بعيدة كي يلتقوا بأستاذهم المربّي المثالي الفقيه الشيرازي.
ولا ننسى أن هذا العطاء العلمي التربوي الأخلاقي، ما كان له أن يوجد أصلا، وما كان له أن يحقق هذا الحضور والتفاعل، لو لا تلك القدرة الذاتية الهائلة التي يتحلى بها الفقيه الشيرازي في إطار التحقق المثالي لبؤرة التوازن والانسجام بين العلمي والنفسي والأخلاقي، فنهضت مدرسة خلاقة هي مزيج من هذا الثلاثي الذي ترتكز عليه تجربة ومسيرة الفقيه الشيرازي، لتشكل انعطافة فقهية ثقافية متفردة، تقوم على تأصيل التوازن العلمي النفسي الأخلاقي في تجربة الفقيه الشيرازي.
اضف تعليق