لعل من أهم أسباب إستفحال حالة التخلف السياسي العربي مصحوبة بإنهيار الوضع العربي العام هو إصرار العرب على انتظار ما قد يفعله الآخرون لهم وبهم وليس ما هم قادرون على فـِعْله. فالمياه الراكدة تصبح مع الوقت مرتعاً خصباً للأمراض السارية والجراثيم المؤذية، وهكذا هو الحال العربي.
يعيش العرب وقضاياهم في مياه أمريكية – اسرائيلية راكدة منذ عقود، الأمر الذي يفسر رغبة العديد من العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، في رؤية هذه المياه الراكدة تتحرك أملاً في أن يؤدي ذلك إلى تغيير ما قد يكون في صالح العرب، وإن لم يكن كذلك فليس في الإمكان في نظر الكثيرين أسوأ مما كان. موقف سلبي يعكس قـَدَراً عالياً من الإستسلام لما قد يفعله الآخرون، والقـَدَرية الممجوجة والتي تخلو من أي قـُدْرَة على التأثير في مجرى الأحداث.
يتابع العرب أخبار ولاية الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب وما يُصَرﱢح به تجاه ما يمسهم من قضايا بإستسلام واضح وإرادة مُكـَبلـَّة ورثوها عن عقود من طاعة حُكـَّامهم فيما يريدون ويرغبون كطاعة العبد لسيـﱢدِهِ. وهم لا يختلفوا في ذلك كثيراً عن حكامهم وعلاقة أولئك الحكام بسادتهم الكبار وخنوعهم لهم، وإن اختلفت مظاهر التعبير عن ذلك الخنوع. وليت الأمر وقف عند ذلك، بل قفز عنه لتنتقل آثار تلك الطاعة وذلك الخنوع إلى العلاقة مع إسرائيل التي انتقل وضعها من حالة العداء إلى المهادنة أو السلام ومن ثم إلى التحالف الوقح الذي نقل إسرائيل من خانة العدو إلى خانة الحليف والتي ترجمت نفسها بتحالف استراتيجي آثم مع ذلك العدو ضد الأخوة وأبناء العم. واستقرت المياه الراكدة استقراراً عميقاً إلى حد الجمود، وأصبحت مياهاً آسِنـَةً عَـفِنـَة تسمم رائحتها الأجواء وتبعث على القلق والخوف والغضب الصامت.
لقد فاقم نجاح دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأمريكية من حالة القلق والخوف التي عصفت بالمنطقة العربية. وانتفضت كذلك معظم دول العالم خوفاً وقلقاً من الأفكار التي طرحها الرئيس الأمريكي الجديد. ولم يتم ذلك بإستكانة وإنما برفض وإستهجان العديد من شعوب العالم، وبنبرات قلقة أو غاضبة من حكامها، إلى الحد الذي أرغم ترمب إمـﱠا على إعادة النظر في بعض مواقفة، أو إلى العمل على ايضاحها أو تبريرها. ولكن وفي خضم ذلك بقي العرب صامتين أو غائبين. والادهى أن الشعوب العربية، مع أنها مستهدفة بشكل رئيسي من أفكار ترمب، إلا أنها لم تعبر عن غضبها أو قلقها من تلك المواقف والسياسات ولا حتى بمظاهرة واحدة، بعكس الأمريكيين والأوروبيين والمكسيكيين وغيرهم من الشعوب الحية. وفي غياب هذا التعبير عن الرفض أو حتى الغضب، ماذا ينتظر العرب من دونالد ترمب؟ هل سيبقى بعض العرب معتمدين على تبعيتهم أو صداقتهم المزعومة لأمريكا، أو على الدعم الإسرائيلي في صراعهم مع إيران، أو وساطة إسرائيل لصالح بعض الأنظمة العربية لتخفيف وطأة إندفاع الإدارة الأمريكيه الجديدة في اتجاهات قد تؤدي إلى مزيد من التفجير لبؤر التوتر ومراكز الأزمات في منطقة الشرق الأوسط؟
عند الحديث عن إدارة دونالد ترمب الجديدة للولايات المتحدة، فإن السؤال الرئيسي المتعلق بمنطقة الشرق الأوسط هو فيما إذا كان العرب يملكون رؤيا موحدة أو متجانسة لقضايا منطقتهم تؤهلهم للتقدم بمشروعهم الاقليمي الخاص بهم والدفع به كبديل لمشاريع الآخرين الاقليمية سواء أكانت قادمة من إسرائيل أو من إيران أو تركيا؟ أو فيما إذا كان العرب يملكون من الارادة وأدوات القوة أو التأثير ما يُمَكـﱢنـَهم من تغيير النظرة التي يحملها الآخرون، خصوصاً أمريكا تحت قيادة دونالد ترمب، لقضايا المنطقة؟
هنالك نمط من الاستسلام الطوعي الذي يدفع المنطقة العربية نحو قبول متزايد بأن مستقبلها كدول أصبح في مهب الريح، وأن واقعها كأمة عربية لم يعد فاعلاً او مؤثراً أو ذا قيمة على مجريات الأمور. وعـَكـَسَ هذا الاستسلام نفسه على شعوب المنطقة وعلى موقف الآخرين منها.
وابتدأ تعامل القوى الكبرى مع المنطقة العربية ودولها بإعتبارها "رجل العالم المريض" المـُسْتـَباح والذي لا يحظى بأي اعتبار أو احترام. وزاد هذا الوضع مأساوية حُكَّام دُوَلـِها اللذين استمروا في الاصرار على التعامل مع دولهم بإعتبارها مزرعة لهم، وبالتالي إعتبار التضحية بها وتدميرها فداء لذلك الحاكم وإستمراره في الحكم أمراً طبيعياً، بل واجباً مفروضاً وحقاً للحاكم على شعبه. أمر عجيب ولكنه واقعٌ مؤلمٌ ومريرٌ ساهم في إنحدار المنطقة إلى الدرك الأسفل وفي إستباحة مصالحها الوطنية.
إن ما نحن بصدده الآن يـُحَتـﱢم على الجميع إعادة النظر في هذا الواقع والبحث عن حلول له. والإقرار بعدم وجود حل عربي أو إسلامي لما يكتنف المنطقة من مشاكل أو بتوفر رؤيا جديدة لمستقبلها هو أمرٌ محزنٌ، ولكنه جزء من الواقع المأزوم لهذه المنطقة. والحل الوطني أصبح صعبـاً، إن لم يكن مستحيلاً، لأن الهوية الوطنية هي المستهدفـة أصلاً من كل ما يجـري، ولصالح هويات أصغر قد تكون مذهبية أو طائفية أو عرقية، مما يعني عملياً تحويل الهوية الوطنية الجامعة إلى هويات أصغر وتقسيم الوطن الواحد إلى أوطان. واذا كان هذا هو المقصود، فمن هو المستفيد من كل ذلك؟ الاجابة تكاد تكون محصورة بإسرائيل. وكل القوى الأخرى تلعب أدواراً مُسَانـِدة وإن اختلفت بطبيعتها أو مقدارها أو حجمها. والأردن المستقر المتماسك لا يشكل استثناءاً من كل ذلك الا بالمقدار الذي يخدم استقراره الرؤيا والمصالح الاسرائيلية.
إسرائيل تريد وترغب في حل مشكلتها مع الفلسطينيين على حساب الأردن، والأردنيون والفلسطينيون يرفضون ذلك ويجب عليهم الاستمرار في الرفض. فحل المشكلة الإسرائيلية على حساب الأردنيين والفلسطينيين يجب أن يشكل تحدياً مشتركاً لكلا الطرفين يدفعهم إلى توحيد جهودهم من أجل التصدي لذلك المشروع البغيض والمدمر لمصالحهم ومستقبلهم، من منطلق أن على اسرائيل والاسرائيليين حصراً دفع ثمن اغتصابهم لفلسطين، وهذا هو الأساس الذي يجب أن يستند إليه الموقف الأردني والفلسطيني طوال الوقت. وأي محاولة من أي طرف سواء الفلسطيني أو الأردني لتجريم أو تخوين أو إتهام الطرف الآخر سوف يصب مباشرة في مصلحة إسرائيل.
الحديث يدور الآن عن رغبة اسرائيلية تدعمها أمريكا لفرض حل أردني في فلسطين يقوم الأردن بموجبه بإدارة شؤون الفلسطينيين في أراضي الضفة الغربية دون المساس بالمستوطنات ودون الخوض بالضرورة في ترتيبات أخرى سيادية تمس واقع الاحتلال والمستوطنات. هو حل أردني في فلسطين مفروض اسرائيلياً وأمريكياً، وليس حل فلسطيني في الأردن، والهدف ايجاد تسوية ما وفرضها على الأطراف دون المساس بالاحتلال ومكتسباته. وفي المقابل قد يتم العمل على تكريس منطقة غزه كواقع منفصل عن باقي فلسطين إلى الأبد وإعطاءه امتداداً جغرافياً داخل أراضي صحراء سيناء كوسيلة لإغلاق هذا الملف بشكل نهائي ومترابط مع ما سيجري للأراضي الفلسطينية المعروفة بإسم الضفة الغربية. إن إفشال هذه الرؤيا هي مسؤولية فلسطينية أردنية مصرية مشتركة وعلى العرب توفير الغطاء اللازم لذلك الافشال إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
إن تعميم النموذج الإسرائيلي على المنطقة من خلال خلق دويلات صغيرة طائفية أو مذهبية أو عرقية سوف يصب مباشرة في مصلحة إسرائيل ويضفي شرعية على سلوكها الطائفي الإقصائي ويجعل منها القدوة والنموذج للدويلات الجديدة للإقتداء به. ومحاولات بعض الدول العربية والإسلامية الدفع بإتجاه علاقة تحالف إستراتيجي مع إسرائيل يجب أن يتم التعامل معه بإعتباره خطراً على القضية الفلسطينية وعلى مصالح الأردن الإستراتيجية وأمنه وإستقراره. فمعادلة التحالف والصداقة مع إسرائيل في ظل نهجها العدواني الاحتلالي الإستيطاني هي معادلة استسلامية في جوهرها وتحمل في طياتها الموافقة الضمنية على السماح لإسرائيل بالاحتفاظ بكل ما تريده وحل مشكلتها مع الفلسطينيين على حساب باقي الدول العربية وأهمها الأردن ومصر.
لا يوجد فصل بين التطورات المختلفة وما يجري هنا وهناك في مختلف أرجاء العالم العربي. فالأمور مترابطة في بداياتها ومنابعها وكذلك في نهاياتها. واذا كان إيمان العرب بذلك ضعيفاً، فإن إيمان الآخرين به أقوى ومن هنا تصب معظم السياسات الدولية في تعاملها مع دول العالم العربي بإعتبارها تنتمي إلى أمة واحدة وأن تمزيقها يصبح بالضرورة جزأً هاماً ومستمراً من إستراتيجية التعامل معها. ومهما تعددت الاتجاهات وتضاربت، فإن العالم العربي يدور في النهاية حول نفسه وما يصيب أحد أطرافه من خير أو شر سوف يصيب الباقي عاجلاً أم آجلاً، مهما كانت رؤيته لنفسه كعالم عربي أو رؤية الآخرين له.
اضف تعليق