عندما أشاهد مناظر الزائرين وهم يفترشون الارصفة في الأزقة والطرقات بمدينة كربلاء المقدسة، ويقضون ساعات الليل في العراء، تنتابني مشاعر مختلفة؛ غبطة كل هؤلاء على هذا الولاء والحب للإمام الحسين، والحرص على الوصول الى كربلاء والى مرقده الشريف لزيارته يوم الاربعين، مهما كلف الامر، والشعور الآخر؛ الأسف العميق لوجود كل هذه المشاعر الصادقة والعميقة والجهود المبذولة في غير محيطها وأجوائها المناسبة، لأن على نفس هذه الارصفة تحديداً في داخل المدينة، وفي سني السبعينات من القرن الماضي، كنت أرى الزائرين في سني السبعينات من نساءٍ ورجالٍ وأطفالٍ، يفترشون الارض ويتخذونه مكاناً للمبيت حتى الصباح، ولم يتغير من الامر شيء سوى بعض مظاهر الحياة، من بعض الامكانات المتوفرة التي أضافت مباني جديدة لحسينيات وهيئات، طبعاً؛ مسألة الإقامة، كانت مجرد مثالاً بارزاً من جملة أمثلة وحالات لما يجب أن يتغير في أجواء الزيارات المليونية بشكل عام، والزيارة الاربعينية بشكل خاص.
القراءة المطلوبة والفهم الصحيح لزيارة الامام الحسين
فيما مضى من الزمن، وتحديداً في الفترة التي سبقت تاريخ 9-4-2003، والى ما يمتد التاريخ عمقاً في تعامل الحكام مع مسألة زيارة الامام الحسين، عليه السلام، كانت هنالك قراءتان للزيارة؛ الاولى: تتعلق بالموالين الذين يرون في هذه الزيارة امتداداً للإيمان وتكريساً للعقيدة وبناءً للثقافة والفكر، في المقابل منهم، كان يقف الحكام بقراءة ملؤها الخوف والهلع من الأثارة المترتبة لهذه الزيارة على الواقع الاجتماعي ثم السياسي، وكونها تشكل تهديداً لهم، كانت اجراءات المنع ثم التنكيل بالزائرين على قدم وساق، وبمختلف الاشكال.
أما في الوقت الحاضر، فان القراءة الاولى على حالها وهي في حالة تعمّق وتوسع، بيد أن القراءة المقابلة – وإن ليس بالامكان مقارنتها بما مضى من الزمن- وهي قراءة أهل الحكم والمسؤولية في الدولة، فانها احترمت المشاعر وواكبت الحراك الجماهيري الذي استعاد نشاطه الحسيني بعد توقف دام عقود طويلة من الزمن، وأول قراءة لهذا الحراك، تمثل في الدوافع المعنوية لدى الزائرين التي تجعلهم – كما يتصور البعض- لا يأبهون بأي شيء مقابل الوصول الى مرقد الامام الحسين، عليه السلام، وممارسة الشعائر الحسينية والقيام بأعمال الخدمة للزائرين، من توفير الطعام والشراب والمبيت وغيرها.
وربما تعود هذه القراءة الى مطالعة بعض أدبيات الحراك الجماهيري في تاريخ الشعائر الحسينية، وكيف أن الناس كانوا يسترخون دمائهم وأموالهم من أجل إحياء ذكر الامام الحسين ونهضته، لذا فان السير على الاقدام لمسافات طويلة داخل الازقة والطرقات المزدحمة، والاصطدام في الطريق بمطابخ ضخمة على الارصفة، الى جانب مرابض للابقار والاغنام لغرض توفير اللحوم، والحيرة القاتلة للزائرين بسبب عدم وجود أية علامات دالة على أسماء الشوارع والازقة والاحياء السكنية تمكنهم من الوصول الى اماكن اقامتهم، وغير ذلك كثير، كل هذا يعد من الامور الطبيعية المستساغة لدى الزائر!.
وكنا نتصور أن الكلام الذي تفوّه به أول قائد شرطة في كربلاء المقدسة بعد الاطاحة بصدام، يعد زلّة لسان وكلام عابر يمثل رأيه الشخصي، وربما جاءت رد فعل على الانفجار الجماهيري في الايام الاولى من سقوط صدام، لزيارة الامام الحسين بحرية مطلقة، فقد سُئل عن سبب كثرة القطوعات المرورية حول المدينة أيام الزيارة، وأجاب: "إنها استجابة لرغبة الزائر بالمشي سيراً على الاقدام..."!.
ليس المطلوب تحويل كربلاء المقدسة الى واحة خضراء وأرض مصفوفة بالرخام الابيض، لإنجاح ما يصفه البعض بـ "السياحة الدينية"، إنما المطلوب قراءة صحيحة لزيارة الامام الحسين التي تلتقي فيها جوانب انسانية ومعنوية وعقائدية، وقد تحدث الخطباء والعلماء عن "أخلاقيات الزائر"، وعن الدروس والعبر التي يحصل عليها، والابعاد الحضارية التي تنتفح امامه وهو يزور مرقد الامام الحسين، بنفس الطريقة والتوجه الذي أوصى به الأئمة المعصومون، وتحديداً الامام الصادق، الذي شدد على مسألة "المعرفة" لقيمة الزيارة وحقيقة شخصية الامام الحسين، عليه السلام، وتأثيره على حياة الانسان في كل زمان ومكان.
إن الدول التي تستفيد من تراثها الحضاري مادياً، تخصص جهداً وامكانات لدراسة هذا التراث وعطاءاته للانسانية، لتحويل هذه الدراسات الى ثقافة للمواطن داخل البلد، ومن ثم للزائر الذي يروم زيارة المعالم الأثرية، ويعرف أنه جاء الى مكان يستحق إنفاق المال والوقت عليه، لذا نجد أن دولاً مثل مصر تعتمد بشكل كبير على السياحة التاريخية لتمويل ميزانيتها، وحسب آخر إحصائية؛ فان مصر حصلت عام 2015 على 6 مليار دولار من عائدات السياحة، وما لديها سوى إهرامات الفراعنة وبعض المقابر والمعابد الفرعونية القديمة، علماً أن ملايين السواح الوافدين، يترجلون بين الاحجار وبقايا الاطلال في منطقة الجيزة وغيرها، ولا يمشون على الارض الرخامية البراقة، إنما يسيرون على نفس الرمال التي مشى عليها الفراعنة قبل اكثر من ثلاثة آلاف سنة.
عندما نعرف حقيقة الامام الحسين، عليه السلام، ونهضته الانسانية والحضارية، سنعرف ماذا يريد الزائر لمرقده الشريف، ولعل بعض المحبين والموالين بدرجة عالية من الذوبان الحب، توصل الى بعض هذه المعرفة، وبحركة بسيطة وعفوية ومثيرة في آن، نشهد انتشار ظاهرة تنظيف أحذية الزائرين في غير شارع وطريق مؤدي الى مرقد الامام الحسين. هذه مبادرات فردية من بين الزائرين انفسهم، بينما اذا كان الامر عند مسؤولين في دوائر خدمية ذات امكانات مالية هائلة في بلد مثل العراق، فان الامر يختلف كثيراً ويأخذ ابعاداً واسعة من الخدمة لحشود الزائرين، فهم لا يأبهون من المشي على الرمال، كما لو هي صحراء كربلاء سنة 61 للهجرة، ولكن هذا لا يعني الحرمان من تطور الخدمات والاستفادة من قيمة النظام في كل شيء، وأن يكون كل شيء في محله، وهو ما ورد في أدبياتنا ونصوصنا الدينية مقابل النهي عن الفوضى.
وفي هذا الحيّز المحدود لسنا بوارد الحديث عن مقترحات وافكار لتوسعة كربلاء المقدسة، وإنشاء المرافق الخدمية والطرق والاتصالات وغيرها، إنما المهم إيجاد اللحمة المطلوبة بين معاني الزيارة ودلالاتها وتأثيراتها، وبين الاجواء المحيطة بالزائر، ليس لتوفير الراحة له، وإنما أكثر من ذلك؛ تكريس آثار الزيارة في نفسه بتوفير أجواء روحانية بعيدة عن الهموم الدنيوية، علماً أن معظم الزائرين – إن لم نقل جميعهم- تجاوزوا الكثير من المشاكل والتحديات في حياتهم اليومية من أجل الوصول الى مرقد الامام الحسين، عليه السلام.
مسؤولية من؟!
في الوقت الحاضر يتبادل المسؤولون في الدولة والمؤسسات الدينية والثقافية والمواكب الحسينية بإلقاء المسؤولية على الآخر في استمرار الوضع المزري داخل مدينة كربلاء المقدسة خلال الزيارات المليونية، فالبعض يتحدث عن أولوية الثقافة والسلوك الاجتماعي في مراعاة النظام والمحافظة حقوق الآخرين خلال تقديم وجبات الطعام والشراب للزائرين، او في تسيير المواكب الحسينية، بينما يتحدث البعض الآخر عن القصور الكبير لمؤسسات الدولة منذ حوالي 13سنة في عدم تغيير وجه المدينة في زيارات مليونية كهذه بما يليق بمنزلة الامام الحسين، عليه السلام.
الطرفان كلامهم حق، لأن القضية بحاجة الى تضافر جهود وتنسيق وتخطيط من الجميع وفي خط واحد وممتد دون انقطاع، فلا الدولة وحدها قادرة على تحقيق الهدف المنشود، ولا المؤسسات الدينية من علماء وخطباء وحسينيات، قادرة على الشيء نفسه، إلا أن يلتقي الاثنين على نقطة المعرفة الحقيقية والكاملة لزيارة الامام الحسين، وهذا بحاجة الى إرادة خاصة وعزيمة قوية، تثبت للزائرين القادمين من دول اسلامية وغير اسلامية، أن العراقيين الذين دفعوا ثمن حرية هذه الزيارة الكثير الكثير من الدماء والتضحيات طيلة عقود من الزمن، قادرين على تشييد مدينة تشتمل على القدسية وعلى النظام بما يعود بالمنفعة المادية والمعنوية على الجميع.
اضف تعليق