بدأت السماء تكتسي حُلّة الظلام، أبحث عن بصيص من الضوء ينير حجرتي، اتلمس بيدي هنا وهناك، عن قبس او شمعة، رفعت نظري إلى الاعلى نحو السماء، لوحة سوداء خط عليها بخيط من الفضة، وحيدة انا في هَذهِ الحجرة، ككل ليلة انتظر القمر وانصت لحكاية النجوم، بيت شعر اردده كلما نظرت الى النجوم، استوحشني المكان، وقَفَتْ انظر والدُّموع على وشكِ الانهمارِ، أمْسَكَتْ بعصا عود الرمان اتجهت نحو سرير، ثمَّ عادَتْ إلى مكانِي بعدما رحل عني النوم.
سقطت عند باب الحجرة، تألمت قدمي كثيرا، لكنني لم اصرخ، تجاهلت وجعي وحاولت ان اجلس بكل قوتي، عجزي يجبرني ان لا اقف، وثقتي وقوتي تدفعني نحو الوقوف، ثمة صراع بين قوتي وعجزي ولا اعلم أي منهما سيفوز في النهاية، صوت والدتي وهي تجهز حقائب السفر كان مرتفعا، لم يبقى من الوقت الا القليل، ان رجع لي الامر اتنمى ان يجهزوا حقائبي معهم، ولكنها امنية واغلب الاماني لا تتحقق، تعبت وانا اقول لهم اجعلوا رحالي معكم، تعبت وانا اقنع عائلتي بانني اود الرحيل معهم، أهمس لأمي لَا تقلقي هناك من يتحمل عجزي، يشدون رحالهم، كانتْ العاشرة مساءًا، البرد بدأ يتسلل الى جسدي، جلسُت على عتبة الدار تقابلني امي، خطوط الشيب غزت رأسها وخالطت سواده، لم تشعر بأن مضي خمسين سنة من عمرها، عشر سنوات قضتها معي على هذا الكرسي تلازمني الفراش، رمقت باتجاهِ أبي، يطأ راسه، وعدت متكئة لحجرتي تسندني العصا.
في تلك الأثناء كانت امي تحلق في خيالها وتحلق مع أحلامها في فضاء افكارها، وتستعد للقيام بتلك الرحلة حتى أنها جهزت الحقيبة وكل شيء يلزم من ثوب الصلاة الى مفاتيح الجنان وصلا إلى بطاقات تعرفيه لبقية أفراد، وهنا وفجأة صرخت وطلبت من ابي ان يقطع التذاكر لأربعة اشخاص وليست لثلاث، استغرب ابي من كلامها، قبل دقائق رفضت ان تأخذني معها والان تطلب من ابي ان يقطع لي تذكرة معهم، دخل السرور على قلبي، اتجه ابي فورا إلى شركة السياحة لحجز الطائرة.
فبادرتني امي بأنها تراجعت عن قرارها لأنها تخيلت ان شفائي سيكون هناك في تلك البقعة، شعرت بالراحة وفجأة اتصل ابي وقال ان موعد انطلاق الرحلة هي الساعة الثانية بعد الظهر، كل شيء كان يسر سريعا، واقفت امي على الوقت وطلبت منه ان يحجز الان، تطل السعادة من خلجات وجهها، فتزداد سعادتها بكل وضوح على شفتيها، وبرقت عيناها بالفرحة التي طالما انتظرتها سنوات عديدة، وهى ترتدى ثوب الحج المبهر عليها، فتزداد لمعانًا كحبة لؤلؤ.
مضت الساعات وانا في انتظار اقلاع الطائرة، هذه المرة لم تكن العصا بيدي فكان ابي هو من يسندني، واخي الاصغر كان من يمسك بيدي، امي متثاقلة بالحقائب واجراءات السفر، بعد الحادث الذي تعرضت له منذ عشر سنوات وانا لم اغادر بلدي، لعجزي وصعوبة سفري، كم هو رحيم جبر خاطري فلك الشكر يا رب، جلست في الطائرة ثمة مكان مخصص للعجزة، نظرت للعالم من نافذة حجرتي الطائرة وهي ترتفع من الارض محلقة نحو السماء بعيدا، نحو الصفاء والنقاء فلا بشر ولا حجر، الارض ملت بالكذب والنفاق عاجزين اخلاقيا، يصفون الاخرين وينعتون ويتجاهلون افعالهم، يستحقون ان يكونوا في القاع لا في السماء، حلقي اكثر ايتها الطائرة اريد الامان، الصدق، الاخوة، فلتكن هذه الارض للفاسدين، صوت مرتفع من طاقم الطائرة " سيداتي وسادتي، تمر الطائرة الان بين مطبات هوائية ..فيرجى من حضراتكم الجلوس في مقاعدكم وربط احزمتكم ..وشكرا.
استغرقت الرحلة ساعتين ونصف حتى عاد من جديد " سيداتي وسادتي اسعد الله مساءكم بكل خير، الان هبطت الطائرة بحفظ الله ورعاية على مدرج مطار النجف الاشرف الدولي، حيث تكون الساعة الان في مدينة الخامسة عصرا الساعة، درجة الحرارة 35درجة مئوية، من اجل سلامتكم وراحتك يرجى البقاء في مقاعدكم حتى تثبت الطائرة جيدا على ارض المطار وتنطفئ اشارة الاحزمة، نيابة عن الكابتن ومساعد الكابتن وافراد طاقم هذا الطائرة شكراً لاختياركم رحلتنا. غص قلبي ولمعت دمعة في عيني فلم أعرف سبب غصه قلبي ولا سببا لحزاني، فهذه اول مرة ازور فيها هذه المدينة، لمحت ضوء يشق طريقه في الغيوم بصعوبة فأحسست بالضيق داخل صدري ينفرج، رددت يا علي، فها هي قبة البيضاء تعانق سماء المدينة المشرفة، وها هي السكينة تعود لكل شيء حولي، حملني ابي بكرسي العجزة ونزلت الى بقعة النجف الاشرف، فجن ذلك العقل بمولاه، ترانيم امي ودعواتها كانت تنسمع من بعد، فيحيىَ فيهِا نبض الامان كل شيء هنا مختلف المكان يكتظ بالزائرين لا شبيه له، خدمات يدفعون الكرسي ولا يعلمون من انا، خرجنا من المطار متجهين نحو السلام والسكينة امام علي (عليه السلام) بين الحسرات والامنيات وصعوبة الطريق في كل مكان ترى زائرين يحملون رايات ويسيرون نحو هدف واحد، تعجبت الى اين هم يتجهون، لم يخطأ احد ويسير عكس الدرب، لا بل كانوا منظمين، قوة تستدعي مني البحث والسؤال عن مسيرهم، تائهةً انا في التفكير! اطفال صغار، شيوخ ونساء، البعض يتكئ من شدة تعبه، والاخر يستند على كتف اخيه، والاعجب من هذا امرأة تدفع ابنها الرضيع في صندوق من البلاستك، خيم سوداء ونداءات واصوات التعازي، دخان يرسم في السماء، وهناك من يقف في الطريق ساعة وساعات ليقدم الماء لزائرين، وشيخ جعل له خيمة يفتي الناس في مسائل دينهم، عجيب لمن كل هذا، استدرت نحو ابي، وما زلت أسأل نفسي ما هذا؟ استدرت الى الخلف كان يجلس ابي وبقية عائلتي لا نني عاجزة كنت اجلس منفردة في الامام، طلبت منه ان يحدثني عن هذا السير؟ بحكم انه اعلم منا، صوته مختنق بعبرة، يا ابنتي انها رحلة الاربعين، وما تنظرين همه مشاة الاربعين، يأتون من كل مكان مشيا على الاقدام لزيارة الاربعين لمولانا الامام الحسين (عليه السلام) والتي هي من علامات المؤمن كما قال الامام العسكري (عليه السلام) علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين.
ابي وما هي قصة الاربعين؟
حبيبتي يا ابنتي يروى أنه بعد أن علم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري بمقتل الإمام الحسين(عليه السلام) توجه من المدينة المنورة نحو أرض كربلاء، وكان قد كف بصره، يقول عطية العوفي، وكان مع جابر: (عندما وصلنا إلى الغاضرية على شاطئ نهر الفرات اغتسل جابر في شريعتها، ولبس أطهر ثيابه، ثم فتح صرة فيها سعد فنشرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى، حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسني اياه يا عطية، فألمستُهُ إياه، فخرّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه من الماء، فلما أفاق قال يا حسين ـ ثلاثاً ـ ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: وأنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك، وفرق بين بدنك ورأسك، أشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين، وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكسا، وابن سيد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء) إلى أن تقول الرواية أن عطية مضى ليرى من هم القادمون من ناحية الشام، فما أسرع أن رجع وهو يقول: (يا جابر، قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين قد جاء بعمّاته وأخواته)، فقام جابر حافي الأقدام مكشوف الرأس، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فحدّثه الإمام بما جرى لهم من قتل وسبي وتشريد وكان مما قاله (عليه السلام): (يا جابر هاهنا والله قُتلت رجالنا وذُبحت أطفالنا وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا)، ومنذ ذلك اليوم العشرين من صفر أصبحت تتوافد مئات الآلاف، بل الملايين، من الزائرين الى كربلاء لزيارة الحسين (عليه السلام) مشيا على الاقدام مواساة لسيدة زينب سلام من الله عليها.
ابي ارجو منك ان تتوقف لحظة، ماذا هناك يا ابنتي؟
قل لسائق ان يقف عن السياقة اريد ان اسير مع الزائرين لأشارك السيدة زينب في الطريق؟
لكن يا ابنتي انت لا يمكنك السير؟
اعلم يا ابي انني عاجزة ولكن عجزي لا يعيق زيارتي!
عانقني وقبلني وضمني بقوة، فتح اخي الكرسي واجلسني عليه، مسكت بيدي راية خضراء كتب عليها السلام على المخضب في الدماء، امي تجر بيدها حقائب السفر وبيدها الأخرى اخي، في كل مرة يقول فيها ابي استريحوا قليلا كانت امي ترد عليه لم يحن الوقت بعد لم يحن الوقت بعد أكمل طريقك.
تعب ابي كثيرا ارخى يده من الكرسي وتوقف، لم ارفع نظري لرأى ابي واتفقد وقفته، لكوني على يقين بصحة ابي وجهده، فجأة أسرع الكرسي بي من دون صوت، اصوات الزائرين وانفاسهم ترتل آيات العشق الحسيني الاصيل، يد بيضاء تمسك بي من جنب الكرسي اخطأت لعل اخي هو الذي يدفعني، ساعة ونصف وانا على يقين ان اخي هو الذي يدفعني، سقطت الراية من يدي سرعان ما رفعت مرة اخرى اخي من رفعها، اذن من الذي يدفعني يا الله، التفت وبصعوبة الى الخلف، شاب غريب !! لاحظ ابي التعجب والخجل على وجهي فهمس لي، هو من طلب ذلك يا بنتي، عند عامود (80) جلست امي لتريح جسدها المنهك، اقدامها المنتفخة كانت تؤلمها كثيرا، تقدم ابي نحوي واخذ الكرسي، احتضن الشاب وشكره على عمله الانساني، فترة الاستراحة كانت هي فترة الصلاة، كملائكة تتعبد اصوات الاذان ترتفع من الخيم الحسينية، مصلى خاص لنساء، بحكم عجزي لا يمكنني الصلاة من الوقوف، وفي الجلوس مشكلة ايضا، دخلت الخيمة بيد تمسكني امي ويد اخرى امرأة متحجبة صاحبة الخيمة، كما قالت خادمة لزوار الحسين، مسكت يدي واحتضتني وفرت لي مكان خاص لصلاة، تدهن قدمي وتقبل التراب، دموع امي كانت مطر يهطل، التربة كانت تضعها بيدها عند السجود، ماذا تنتظر هذه المرأة بعد هذه الخدمة، تنتظر ان تنال شفاعة الحسين (عليه السلام) وان يتقبل خدمتها، انهينا الصلاة والدعاء وباشر ابي بالمسير، يوم وليلة هي رحلتنا نحو الجنة نحو كعبة العشاق، عند اول الصباح الباكر هبت نسائم الورد، تتزاحم الارواح قبل الاجساد لتحتضن الضريح المقدس وتطوف السبعة حول قبته، لهفي لزيارة القبر ورؤية الجنة من قرب، ادهشني منظر ان الجميع يقترب من الضريح لا من اجل مال او سلطة او حتى اعلام، لا فرق بين سني او شيعي كردي او عربي، ايراني، او خليجي، جمعتهم غاية واحدة " الحسين يوحدنا " وحقا كانوا موحدين، مع امواج الزائرين حملني الموج وصرت عند باب الراس، رفعتني ايديهم وحاطتني صلواتهم، طرقت الباب الخشب بجسد مرتعش وقلب يمتلئ ايمانا، اقرا الزيارة جذبني صوت امرأة تنعي عند الباب، ابكتني لشدة كلامها، لحظة ما شعرت بان على قدمي ماء، حاولت ان احرك قدمي لم اتمكن من ذلك امي من جانبي اطلبت منها تريحني قليلا، تحدثت مع الزائرات ليفسحوا لنا، سحبت امي يدي شعرت بان اصابع قدمي بدأت تتحرك، لا تهيئ لي، عادت مرة اخرى تحركت الاصابع، صرخت امي، انظري قدمي تتحرك، كجنين ينطق في بطن امه لا احد يصدق ما اقول بعد عشر سنوات من العجز تحركت قدمي، اول كلمة قالتها امي شكرا يا حسين، معجزة حصلت في يوم الاربعين فكانت هي غصن من شجرة المعاجز في الأربعين.
اضف تعليق