إن أعمال حقوق الإنسان -سواء كانت للرصد أو للتعزيز- أصبحت مهنة متخصصة تتطلب استعدادا كافيا، ومهارات تقنية محددة، ومعرفة كبيرة بالموضوع، لكي يمكن أداء هذا العمل بكفاءة. ورصد مخالفات حقوق الإنسان وظيفة كبرى ومتكررة للعلميات الميدانية للأمم المتحدة، وذلك لان عمليات الرصد وتقصي الحقائق تساعد على معالجة انتهاكات حقوق الإنسان من جهة، وتمنع إلى حد ما من تكرارها من جهة أخرى.

ويا للأسف؛ لم يلتفت المدافعون عن حقوق الإنسان والراصدون للانتهاكات إلى أحداث التاريخ وأبطالها، ولم يقرؤوا عن المدافعين والراصدين الأوائل ممن دافعوا ورصدوا انتهاكات حقوق الإنسان في حقب مختلفة من التاريخ، لاسيما التاريخ الإسلامي، مثل السيدة زينب بنت علي أبن أبي طالب "ع" تلك السيدة الفاضلة التي نذرت حياتها من أجل الدفاع عن الكرامة والحقوق والحريات، وأنهت مسيرتها بالتضحية بأسرتها وأولادها! ومع ذلك كله، تمكنت من نشر مظلوميتها وأسرتها العلوية ليس في الأوساط المجتمعية، وحسب بل في عروش الطغاة والظلمة...!

فما معنى أن نرصد انتهاكات حقوق الإنسان؟ وما هي المبادئ التي يعتمدها الراصدون؟ وما هي الأهداف التي ينبغي أن تحققها عمليات الرصد وتقصي الحقائق؟ ومن هي زينب بنت علي؟ وكيف تمكنت هذه المرأة الفاضلة من الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي وقيادته؟ وكيف رصدت أحداث جريمة كربلاء وضحاياها؟ وكيف وفرت لهم الحماية والأمان والمأوى والغذاء في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت قاسية ومهينة؟ وكيف نشرت تلك الجريمة وفضحت مرتكبيها مع جبروت السلطة الأموية وطغيانها، حيث أن من المؤكد أن النـزاع المسلح سيزيد من مستوى الخوف الموجود في المجتمع، وسيزيد من خوف الأفراد من الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان؟

"الرصد" في مجال حقوق الإنسان، هو مصطلح واسع يصف العمل النشط في تجميع المعلومات والتحقق منها، واستعمالها فوراً من أجل معالجة مشاكل حقوق الإنسان. وهناك عدد من المبادئ الأساس للرصد ينبغي لموظفي حقوق الإنسان وضعها في الحسبان في أدائهم لوظائف الرصد بما في ذلك جمع المعلومات، وإجراء المقابلات، وإجراء زيارات إلى المحتجزين، والزيارات إلى المشردين داخليا و/أو اللاجئين في المخيمات، ورصد عودة اللاجئين و/أو المشردين داخليا، ومراقبة المحاكمات، ومراقبة الانتخابات، ورصد المظاهرات، ورصد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والرصد أثناء فترات النـزاع المسلح والتحقق من المعلومات التي يتم جمعها، وتقييم هذه المعلومات، والاستعانة بالمعلومات للتصدي لمشاكل حقوق الإنسان، مضافا إلى أهمية التعاطي مع السلطات الحاكمة لتزويدها بالمعلومات أو تحميلها مسؤولية الانتهاكات والمخالفات، أو شرح الأخطار الناجمة عن تصرفات رجالها وموظفيها، ومتابعة وسائل العلاج، وغير ذلك من إجراءات المتابعة الميدانية الفورية.

في الواقع، يلعب الراصدون لانتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة دورا مهما في دفع أطراف النزاع إلى الالتزام بالحد الأدنى لمبادئ القانون الإنساني الدولي، لاسيما حماية الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية الذين يجب أن يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة، أو أي معيار مماثل آخر. حيث يحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب، وأخذ الرهائن، والاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وإصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلا قانونيا، مضافا إلى جمع الجرحى والمرضى والاعتناء بهم وغيرها.

هذه الأدوار والمسؤوليات التي يقوم بها المدافعون عن الحقوق والحريات، ويؤديها الراصدون في مواقع انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان في العصر الحديث، هي نفسها ويفوقها أدتها السيدة "زينب بن علي" وهي ثاني أعظم سيدة في سيدات أهل البيت المحمدي، فحياتها كما كانت تزدحم بالفضائل والمكرمات، وتموج بموجبات العظمة والجلالة، وتتراكم فيها الطاقات والكفاءات والقابليات، ومقومات الرقي والتفوق، فهي في الوقت نفسه، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها. وأعظم حادثة، وأهمّ فاجعة، حدثت في حياة السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي راح ضحيتها العشرات من أسرتها وأولادها، والتي أنست ما قبلها من الرزايا، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع.

وقد سجلت ودونت السيدة زينب بنت علي "ع" العديد من تجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها السلطة الأموية يومذاك من قتل ورعب وسبي للرجال والنساء والأطفال بما فهيم الرضع! وما أرخته -في سيرتها -كان له الأثر البليغ، ليس في حياتها وحياة أسرتها وضحايا جريمة كربلاء، ولكن في حياة الأمة الإسلامية كلها، فماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها، أرتبط -على نحو ما- بما وقع في جريمة كربلاء، وبما أملته السيدة زينب "ع" عنها من فعل وقول.

وقد قال المؤرخون وكتاب السير إنه "لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة، غير متكاملة الأجزاء والأطراف. فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد ارتكاب جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة، مثلاً!"

لم تنه واقعة كربلاء بقتل الحسين بن علي وأولاده وأخوته وأبناء عمومته وأنصاره، ممن كانوا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وبرزوا للقتال، إنما هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين عليه السلام، وهم على خيولهم! حتى سحق الأطفال تحت حوافر الخيل، ساعة الهجوم.

نعم، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله: وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول، وقرة عين الزهراء البتول، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها! كانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها ... حتى تغلب على ذلك. ولما فرغ القوم من النهب والسلب، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام. فأضرموا الخيم ناراً، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء ...

ويروي التاريخ أنه "في ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب، وتخفي أنفسهن خلفها، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي، فكانت السيدة زينب عليها السلام تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال، وقد اسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها!"

وبعد الهجوم والإحراق، بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال، وتنادي كل واحدة منهن باسمها، وتعدهم واحدةً واحدة، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال! ونقرأ في بعض الكتب: أن السيدة زينب لما بدأت بجمع العيال والأطفال، لم تجد طفلين منهم، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك، وأخيراً ... وجدتهما معتنقين نائمين، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش!!

ومع هذا، لم تنه جريمة كربلاء بانتهاء المعركة وقتل آل بيت النبوة، فقد كان الظلم ـ بجميع أنواعه ـ بانتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين، والحوادث المؤلمة، سوف تمتد إلى غد وما بعد غد، وإلى أيام وشهور، مما لا بالبال ولا بالخاطر. لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة؛ وكأنهم يحاولون الانتقام منهن، ويطلبون بثارات بدر وحنين!

أثناء ذلك، وفي رحلة قافلة السبايا من مدينة إلى مدينة، استمر دفاع زينب وتصديها للمجرمين في عقر ديارهم وقصورهم، فعندما وصلت قافلة السبايا إلى الكوفة، ودخلن النسوة عنوة قصر حاكم الكوفة، خطبت السيدة زينب فيهم قائلة "وَيلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبدٍ لرسول لله فَرَيتُم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأي دم له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟" وكانت هذه الخطبة في ذروة الفصاحة، وقمة البلاغة، وآيةً في قوة البيان، ومعجزة في قوة القلب والأعصاب، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية، ومن كان يحيط به من الحرس المسلحين، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الاستعداد ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت.

يصف الإمام محمد الشيرازي رحلة زينب ورصدها لواقعة كربلاء بقوله "حضرت كربلاء بكل قضاياها الفريدة في العالم. وأدركها الأسر، ولأول مرة تؤسر بنات رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلّم) وكانت (عليها السلام) هي التي أوصلت صوت الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العالم بأجمعه. وأُحضرت زينب مجلس أبن زياد ومجلس يزيد، ومن ثم عودتها إلى مدينة جدها (صلى الله عليه وآلة وسلّم) بكل مآسيها، وفي المدينة المنورة تلقتها نساء أهل البيت ونساء المسلمين بكل لوعة وأسى".

ومن هنا، بقيت «فاجعة كربلاء» خالدة إلى يوم القيامة، عند كلّ مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك، ويؤمن بالكرامة والقيم الإنسانية، وكلّما ازداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الجريمة، بصورة أوسع، والتفكير حولها بشكل أشمل، والكتابة عنها بتفصيل أكثر. ولخلود جريمة كربلاء ـ وامتيازها على بقيّة جرائم وكوارث التاريخ ـ أسباب متعددّة، نذكر بعضها:

١ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة التعذيب والقتل أو السبي والتهجير والجوع -في جريمة كربلاء-كانوا هم أفضل البشر، وأشرف خلق الله تعالى، رجالاً ونساءً، بل كانوا في قمّة شاهقة، ودرجة عالية من العظمة والجلالة، والإيمان بالله تعالى، وهم من أولاد وأحفاد النبي محمد "ص".

٢ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في جريمة كربلاء ـ كانوا أخبث البشر، وأكثر الناس لؤماً، وأنزلهم نفسيّةً، وأعظمهم انتهاكا لحقوق الإنسان وحرياته، بل كانوا المؤسسين والراعيين الأوائل لكل من ينتهك الحقوق والحريات ويهين الكرامة من بعدهم.

٣ـ إنّ جريمة كربلاء مهّدَت الطريق لسلسلة من الفجائع والجرائم والجنايات، فأعطت الطغاة والقتلة الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد، ولا يلتزموا بعقيدة أو دين أو يحترموا إنسان، فكان عمل مرتكبي هذه الجريمة، بمنزلة تأسيس الأُسُس وفتح الطريق أمام كل خبيث ولئيم، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من الجرائم والجنايات!

٤ـ كان لحضور زينب بنت علي "ع" في موقع الجريمة ورصدها لأحداثها، وتقصيها للحقائق، ونشرها على الناس عامة، ورعايتها لضحاياها، الدور الأكبر في التعريف بهذه الجريمة وبشاعتها، ونقلها للأجيال اللاحقة -بتفاصيلها المؤلمة- لكي يستفيدوا منها لا سيما المدافعون والراصدون لحقوق الإنسان.

ولهذا كان ضروريّاً على كل إنسان، يؤمن بالإنسان وكرامته وحقوقه أن يستلهم الدروس والعبر من تلك الجريمة الكبرى، ويقوم بدراستها وتحليلها، ويجعل من زينب بنت علي "ع" قدوة له في الدفاع عن الحقوق ورصد الانتهاكات والمخالفات والتجاوزات التي تقع على الإنسان وكرامته المحترمة. فهي تلك المرأة الكبيرة التي رفعت صوتها بوجه السلطان الطاغي يزيد قائلة: (… فإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل، فَكِدْ كَيْدك، واسعَ سَعْيَك، وناصِب جُهدك، فو الله لا تمحو ذِكْرنا، ولا تميت وَحْينا، ولا تُدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها).

...................................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com

اضف تعليق