كتاب عتيق اوراقه صفراء متناثرة، متشبعة بالرطوبة، تعاني الذبول كشجرة لم تسقى ماء منذ زمن، اوراق الكتاب كانت متعطشة ليد تقلب بها، وتقرا سطورها، كما يقلب الاشجار الخريف، تناولت الكتاب وبدأت ارتب صفحاته المنطوية على بعضها، حاولت ان ارتب الاوراق حسب الارقام، لكنها كانت ممزقة، اخذت اقرا الكلمات وارتب الاوراق، اثار غضبي اهمال هذه الثروة الفكرية، والتراث كهذا الكتاب الذي لم يبقى منه الا اشلاء.
جمعت الاوراق ورتبتها بعدما عرضتها على اشعه الشمس، رائحة الكتب القديمة تسحرني وتجعلني اسيرة لأيام الماضي، ايام جدي وجدتي ،شممت عطره المعتق بلهفة، جلست تحت السماء اقرا الكتاب، بدأت من المقدمة عرفت منها ان الكتاب ليس تاريخيا، بل ادبيا يحتضن اشعار وقصائد، يعود الى شاعر قديم، تذكرت ان جدي كان لديه رف خشبي يعرض عليه بعض كتبة، وهذا الكتاب كان من تركة جدي رحمه الله، ((ديوان الأغاريد الشعبية))).سعدت كثيرا لحصولي على هذا الديوان، ولاسيما ان شاعره يطلق عليه بأمير الشعراء، سأقرأ لكم الكتاب لتعرفوا من هو امير الشعر الحسيني؟.
هو كاظم بن حسون بن عبد عون الشمري، ولد في كربلاء عام (١٨٩١) ميلادي، الموافق ١٣٠٩هـ في محلة باب النجف (خلف تكية العباسية حاليا)، وعاش في ظل والده الذي توفي وفارقه وعمره٧ سنوات، فتبنى تربيته ورعايته أخوه الأكبر وخالهُ.
سكن في مدينة كربلاء المقدسة وأنتقل بين محلاتها الشعبية فمن محلة باب النجف انتقل إلى محلة باب الخان وسكن قرب حمام العلقمي، ثم أنتقل إلى منطقة باب طويريج، واستقر بعدها في محلة العباسية الشرقية سنة 1958 قرب مديرية الجنسية حاليا.. عمل في (الجندرمة) خلال الشهور الأخيرة من الحكم العثماني، وكان أحد حراس بوابة كربلاء الشمالية (الطريق من وإلى بغداد) في ثورة العشرين1920 ومارس المنظور العديد من المهن، كمهنة (القهوجي)، وكذلك مهنة تصنيع الجص (جصاص) ومن ثم بيع التمور، وبعدها مهنة بيع الأغنام، وكان طيلة ممارسته هذه المهن مولعاً بكتابة الشعر الحسيني.
كان يتردد على المجالس الحسينية، وكان يحفظ الشعر، بدءًا بجزء عمَ وكان يحضر في شهر رمضان مجالس تفسير القرآن في الصحن الحسيني الشريف للعلامة المفسر السيد حسن الاستر ابادي، وأكمل حفظ القرآن وهو في سن الخامسة والعشرين، دون أن يتقن الكتابة، وكان يستعين بمن حوله للكتابة، وقد أكسبته قراءة القرآن في سنه المبكر موهبة فريدة في نظم الشعر، ثم تعلم القراءة والكتابة وعمره خمس وعشرون سنة.
وطبع له ديوان (المنظورات الحسينية) في 21 جزءاً، وأخرج عنه مجلدان ضخمان، كما جمعت له نماذج شعرية أخرى منتقاة من قصائده، وطبعت عام 1958 في ديوان الذي طبعَ بعد وفاته أيضا.
ورغب جماعة من أوليائه وخلانه في تلقيبه ويقولون إن المرحوم (الشيخ حسين فروخي) لقبه بـ( المنظور ) لأنه سمع هاتفا يقول بعيد صلاته ( كاظم منظور) وكان ذلك في سنة 1344 للهجرة / الموافقة لسنة 1924 للميلاد ولازمه هذا اللقب.
عاصر المنظور قسم كبير من الشعراء الكبار أمثال الشاعر والمبدع المرحوم عبود غفلة وهادي القصاب وعبد الأمير الفتلاوي، وكاظم البنا والحاج كاظم السلامي والشاعر الرادود عبد الأمير الترجمان وغيرهم آخرون، وتتلمذ على يديه شعراءٌ كبار كالشاعر والرادود مهدي الأموي والشاعر سعيد الهر والشاعر سليم البياتي وغيرهم.
من أبرز قصائده المميزة وهي قصيدة (جابر يجابر ما دريت بكربلاء) نظمها شاعر المرحوم عام 1965، وسرعان ما ذاع صيتها وانتشرت في العالم الإسلامي بصوت رادود أهل البيت الحاج "حمزة الزغير"، ( الميمون ).
الحاج رسول التكمجي من معاصرين المنظور أيضا قال: بصمة المنظور في الشعر الفصيح، كانت مميزة فقد نظم الفصيح واعتمد على نفسه دون عرضه على المختصين في اللغة، لأنه وبحكم حفظه وإجادته للقرآن، فقد تمكن من نظم الشعر في مختلف المناسبات في عام 1974 رقد المنظور في فراش المرض، إلا إنه لم ينقطع عن مراسيم شهر محرم، التي سرت في فكره وخالطت دمه، فاستمر بكتابة الشعر رغم مرضه، ويزود المواكب الكربلائية به، وهو يبكي ويقول: " لقد طال بقائي في البيت، وإن شاء الله يوم غد سأخرج، لأن عدم مشاركتي في المواكب أثقل عليّ من المرض رحيل المنظور.
ولما أطاح المرض بشاعر كربلاء، ولازم الفراش، دعا وجهاء كربلاء والحسينيين وأصحاب المواكب الحسينية لزيارته في بيته، حيث كانت الآلام ترتسم على قسمات وجهه من شدة المرض، دون أن يشكو، وتم نقله أكثر من مرة إلى مستشفى الحسيني القديم إلا إن المرة الأخيرة، أشتد فيه المرض، وأصابه نزيف معوي شديد، وبدأ يودع الحياة بعد عمر ناهز الثمانين عاماً.
وبعد إعلان وفاته من منارتي الصحنين الشريفين – في حينها- ومساجد المدينة بتاريخ ٢٦ جمادى الآخر ١٣٩٤ للهجرة والموافق السابع عشر من تموز ١٩٧٤، فكر الجميع في دفنه بمقبرة كربلاء القديمة، وبدأ تشيع الجنازة من داره الواقعة خلف بناية محافظة كربلاء متوجهاً إلى مغتسل المخيم القديم، وبعد الغسل والتكفين، حُمل النعش بحضور جماهير كربلاء المحتشدة، وحُمل النعش على رؤوس الأصابع، وتقدم النعش موكب عزاء ولافتات تعبر عن الحزن والأسى واستمرت مجالس الفاتحة في كربلاء لمدة أربعة أيام، وتوافد المعزون من المحافظات إلى كربلاء، من شعراء ورواديد، مشاركين بقصائدهم ومشاعرهم على الفقيد الراحل.
رحم الله الامير المنظور ورفع درجته، اغلقت الكتاب ورفعت يدي لقراءة سورة الفاتحة واهدتيها الى روحة الطاهرة.
اضف تعليق