لعل أول نص نعثر عليه في تاريخ واقعة الطف هو كتاب أهل الكوفة بعامتهم وخاصتهم من الشيعة، كما يوحي ذلك الكتاب أو يفصح عنه، فقد جاء في الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم....للحسين بن علي من سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك " وكان لفظ الشيعة قد اختص به في هذا العصر قوم من أصحاب علي وخلصائه، ولم يكن يطلق إلا على هذا النفر ممن كانت التقوى شعارهم، والهدي دثارهم.
فقد ورد في الرواية أن عليا (عليه السلام) قد أنكر على قوم في الكوفة أنهم قالوا نحن شيعتك، فسألهم: ولم لا أرى علامات الشيعة عليكم؟ وحين سألوه عن هذه العلامات، ذكر منها: عمش عيونهم من البكاء، وخمص بطونهم من الصيام، وطيب أفواههم من الذكر، وهكذا لم يكن لفظ الشيعة يملك هذا العموم في إطلاقه في هذا العصر بل له الخصوص في استعماله وتداوله، ويؤكد ذلك تداول المؤرخين كالطبري وغيره لفظ الشيعة معرفا بـ"أل" التعريف بعد واقعة الطف، وفي أيام خروج التوابين وحركة المختار الثقفي، وحينها قد انتقل لفظ الشيعة من الخصوص إلى العموم.
وذكر المسلمين من أهل الكوفة في نص الرسالة بعد ذكر شيعة الحسين، إنما يشير إلى اشتراك أهل الكوفة من غير الشيعة في مراسلة الحسين ودعوته إلى القدوم ومبايعته على الخلافة، لاسيما وأنه ورد في نص الرسالة "أنه ليس لنا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق" وكانت هذه الرسالة قد كتبت بعد هلاك معاوية ولم يتهيأ أمر البيعة بعد ليزيد، وكأن الجماعة التي كتبت الرسالة كانت تستبق الأمور وتتهيأ لمنع يزيد من بلوغه الخلافة.
ويبدو أن أصحاب الرسالة قد أيقنوا من اتفاق الناس في الكوفة على الحسين، فبعثوا اليه في أعقاب ذلك رسالة أخرى ابتدأت بتعريف أصحاب الرسالة بشيعته من المؤمنين والمسلمين ولم تكتف بذكر شيعته حصرا وأما الموضوع فيها "فأن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك"، وذكر الناس في نص الرسالة الثانية يؤكد أن دعوة الحسين إلى الكوفة لم تكن حصرا على شيعته لاسيما وأن كلمة الناس في لغة العرب وخطابهم لا يراد بها الخصوص من الناس بل العموم في الناس، ومما يؤكد ذلك أيضا أن رسائل رؤساء القبائل من أهل الكوفة وقادتهم قد أعقبت هذه الرسائل وهو مما يفهم من رواية المفيد، وفيها دعوا الحسين إلى القدوم على جند له مجندة وهم ممن لم يصنفوا ضمن رجال الشيعة في الكوفة.
فقد روى المجلسي صاحب البحار عن المفيد " ثم كتب.....بعد الرسائل المتقدمة..... شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن حجاج الزبيدي ومحمد بن عمرو التميمي : أما بعد فقد أخضرت الجنات وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ".
ونؤشر هنا تمايز تضمينات رسائل القوم والمعاني المضمرة فيها، وإذا كانت رسائل أهل الكوفة من شيعتهم وعامتهم تنبني على أسس من الدين وضرورة الإمامة وشكاية الظلم والدعوة إلى العدل وهو ما نصت عليه نصوص رسائل القوم، فان رسائل أولئك النفر من رؤساء الكوفة وذوي السلطة فيها إنما كانت تدور حول أمر الدنيا وتحيل إلى المغنم فيها من سلطة وجاه اجتماعي وامتياز تراتبي، لاسيما بعد ما أدركوا ميل الناس في الكوفة إلى الحسين، وان ما تقرره الكوفة ستلتحق بها قرارات كل الأمصار والحواضر الإسلامية، فهي لازالت قطب الرحى في عالم الإسلام لفضلها في الدين والعلم والرئاسة، وهي موطن الصحابة بعد المدينة بل وكبار الصحابة، وتكشف كلماتهم عن ذلك التحين والانتظار لاقتناص الفرص السانحة، فالجنة حين تخضر والثمار حين تينع فإنما هي للقطف، والأرض حين تعشب فإنها للمطعم، والأشجار حين تورق فإنها للمغنم، وهكذا تبدو رسالتهم تعبير عن رغبة في وصول الحسين للدنيا وللسلطة.
فالمثل الذي شكّله نصهم في رسم وتصوير اللحظة السياسية الحرجة في الكوفة إنما يعي ويتمثل مطابقته لرغباتهم وأمنياتهم التي لم تنفك عنهم في دخول قصور الملوك ودوائر السلطة، وتفكيك صور المثل الذي ضربوه للحسين في إيضاح الأمر إليه إنما يحيل تفكيكه إلى تلك الرغبة الثاوية في نفوسهم في الدنيا والسلطة، فالخضار والثمار والأعشاب والأشجار إنما هي دلالات الوفرة ورخاء العيش في الذاكرة العربية، وهو ما يصوره الخيال البدوي العربي أو يتصوره مرتهنا في قصور الأكاسرة والقياصرة وخلف جدران القصور النائية عن صحراء العرب ومفاوزهم التي تفتقد اللون الأخضر ويشيح عنها ينع الثمر، وتفتقر إلى ديمومة العشب ويشح بها الشجر الخضر.
وهنا كان مثالهم يستحضر اللاوعي العربي وإنغراس حب السلطة فيه، ولعل الحسين بن علي أدرك تلك التجاذبات الخفية والثاوية في الذات الاجتماعية في أهل الكوفة، ثم هو قد علم اختلاف الدوافع والغايات في رسائل القوم وهو من خبر مجتمع الكوفة وأهلها، ومقارنته بين نصوص الرسائل ومقارنته أيضا بين أصحابها هي التي دفعت بالحسين أن لا يجيب عليها بشيء سواء بالقبول او الرفض، بل أراد أن يطلع على حقيقة الأمر بنفسه، ولذلك عزم على إرسال ابن عمه وثقته مسلم بن عقيل وزوده برسالته الأولى إلى أهل الكوفة وقد جاء فيها "بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين........ وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم انه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك.... وانا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إلي بأنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فاني اقدم اليكم وشيكا إن شاء الله".
وقد جاءت رسالته تلك بعد امتناع منه على إجابة ما سبق إليه من الرسائل وفق السيد ابن طاووس، وقد بلغت في رواية ابن طاووس أثنا عشر ألف رسالة، وكانت الرسائل تأتيه من أهل الكوفة من جماعات وإفراد إضافة إلى رسائل قادة المجتمع الكوفي وأهل الرأي فيه، ولم تكن رسالته هذه قد اختصت بشيعته عليه السلام، بل هي إلى عامة الملأ في الكوفة من شيعته وغيرهم، وذلك بعد أن قرأ نصوص رسائلهم وأطلع على دوافعهم وغاياتهم، وبعد الجمع فيها وخلاصة الرأي منها عرف أنهم يطلبون إماما عادلا وحاكما غير جائر، لذلك ختم رسالته بتعريف الإمام والحاكم بقوله "فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذلك لله، والسلام".
اضف تعليق