مـاذا يُـهيجُك إن صبرتَ........لـوقعة الـطف الفظيعة
أتــرى تـجئ فـجيعةٌ........بأمض من تلك الفجيعة
حيث الحسينُ على الثرى........خيلُ العدى طحنت ضلوعه
قـتـلـته آلُ أمــيـة........ضام إلى جنب الشريعة
ورضـيعُهُ بـدم الـوريد........مـخضبٌ فاطلب رضيعه
يقول الإمام بقية الله (عليه السلام) في زيارة الناحية المقدسة: السلام على عبد الله بن الحسين، الطفل الرضيع، المرمي الصريع، المتشحط دما، المصعد دمه في السماء، المذبوح في حجر أبيه، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه.
سيخاطب الإمام بقية الله (عليه السلام) أهل العالم عند قيامه وظهوره ويقول: يا أهل العالم ما ذنب هذا الرضيع أن يذبح في حجر أبيه.
قال الشاعر:
لا ضـيـر فــي قـتل الـرجال........وإنما قتل الرضيع به الضمير يضام
طـلب الـحسين الماء يسقي طفله........فاستقبلته مـن الـعداة سـهام
فعبد الله (الرضيع) بن الامام الحسين (عليه السلام)، وأمه هي رباب بنت إمرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر، وكان امرؤ القيس (والد الرباب) قد زوّج ثلاث بناته في المدينة من: أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السّلام، فكانت الربابُ عند الحسين عليه السّلام، فولدَتْ له: سكينة، وعبدَالله.
وقال الامام الحسين (عليه السلام) بحقها (الرباب):
لـعمرك أنـي لأحـب داراً........تـحل بـها سـكينة والربابُ
أحـبهما وأبـذل جُـلَّ مالي........وليس لعاتبٍ عندي عتابُ (1)
وكانت مع الامام الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلاء، وبعد استشهاده جيء بها مع السبايا الى الشام، ثم عادت الى المدينة، فخطبها الأشراف، فأبت، وبقيت بعد الحسين سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمدا، وكانت شاعرة لها رثاء في الحسين عليه السلام.
كتاب الملهوف على قتلى الطفوف لمؤلفه العلامة المحدث ابن طاووس (قدس) ترجمة مبسطة للرباب بنت أمرئ القيس.
كانت مخلصة ودائمة البكاء على أبي عبدالله عليه السلام ولا تجلس في ظل.
وتوفيت من أثر شدة حزنها وجزعها على الحسين وذلك بعد سنة من استشهاده (أي في عام 62) ومن جملة أشعارها في رثاء الحسين:
إن الـذي كان نورا يُستضاء به........فـي كـربلاء قتيل غير مدفون
سـبط الـنبي جزاك الله صالحة........عَنّا وجنّبت خسران الموازين (2)
وذكر أن الرباب لما وضع رأس الحسين (عليه السلام) في مجلس عبيد الله بن زياد، لم تتمالك نفسها أن هجمت على الرأس واحتضنته وأخذت تقبله وتنعيه، ومن معالم إخلاصها هنا أن السبايا لما انصرفن من كربلاء الى المدينة، أبت هذه الحرة الذهاب معهم، بل آثرت أن تظل عند قبر زوجها الحسين (عليه السلام) هائمة تبكي عليه وترثيه، حتى مضت عليها سنة كاملة، وأبت أن تستظل بظل، فضربت بذلك لذوات الحجال مثالا من الوفاء والإخلاص أي مثال.
وكانت من خيار النساء وأفضلهن... أسلم أبوها وكان نصرانيا فولي في زمن عمر على من أسلم بالشام من قضاعة.
وخطب منه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابنته الرباب لابنه الحسين (عليه السلام)، فولدت له سكينة عقيلة قريش، وعبد الله بن الحسين (عليه السلام)، قتل يوم الطف وأمه تنظر إليه.
وقد بقيت الرباب سنة بعد شهادة الحسين (عليه السلام) لم يظلها سقف بيت حزنا على الحسين (عليه السلام) حتى بليت كمدا عليه، وذلك بعد شهادة الحسين بسنة، ودفنت بالمدينة. (3)
وقد عدها الامام الحسين (عليه السلام) من الموصي بهن مع السيدة زينب وأم كلثوم وفاطمة، فقد نقل السيد إبن طاووس: فعزى الحسين أم كلثوم، وقال لها: يا أختاه! تعزي بعزاء الله فإن سكان السماوات يفنون وأهل البيت كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون.
ثم قال: يا أختاه، يا أم كلثوم! وأنت يا زينب! وأنت يا فاطمة! وأنت يا رباب! إذا أنا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن علي وجها ولا تقلن هجرا. (4)
ورُبَّ رضـيعٍ أرضـعَتْه قِـسِيُّهم........مِـن الـنَّبلِ ثَـدْياً دَرُّهُ الثَّرُّ فاطِمُهْ
فـلَهْفي لـه مُذْ طَوَّقَ السَّهْمُ جِيدَهُ........كـما زَيَّـنَتْه قَـبلَ ذاك تَـمائمُه
هـفا لِـعِناقِ الـسِّبطِ مُبتسِمَ اللُّمى........وَداعاً.. وهل غيرُ العِناقِ يُلائمُه؟!
ولَـهْفي على أمِّ الرضيِع وقد دَجا........عليها الدُّجى، والدَّوحُ نادَت حَمائمُه
تَـسَلّلُ فـي الـظلماءِ تَرتادُ طفلَها........وقـد نَجمَتْ بين الضحايا عَلائمُه
فـمُذْ لاحَ سَهْمُ النَّحرِ وَدّتْ لَوَ آنّها........تُـشاطِرُهُ سـهمَ الـردى وتُساهُمه
أقَـلَّـتْهُ بـالكفَّينِ تَـرشفُ ثَـغرَهُ........وتَـلثِمُ نَـحْراً قَـبْلَها السَّهمُ لا ثِمُه
بُنيَّ أفِقْ مِن سكرةِ الموتِ وارتَضِعْ........بـثَدْيَيكَ.. عَـلَّ القلبَ يَهدأ هائمُه
بُـنيّ لـقد كنتَ الأنيسَ لوحشتي........وسَـلوايَ إذْ يَسطو مِن الهَمّ غاشِمُه
لم يشرب الطفل الرضيع الماء لمدة ثلاثة ايام، وقد جف لبن أمه الرباب.
وكانت شفاه الرضيع ذابلتان و كبده يتلظى عطشا.
ومن الواجب الشرعي على الامام أن يطلب له شربة ماء. ورغم أن الامام الحسين (عليه السلام) يعلم أن نفوس القوم الظالمة لئيمة لا ترحم حتى الطفل الصغير.
لهفَ نفسي على الرضيعِ الظامي فَطَمـتْـه السِّـهامُ قَبـلَ الفِطامِ ولكن مولاي الحسين (عليه السلام) كان يريد تقديم أعز ما يملك لله تعالى. وبنفس الوقت مجيء الامام (عليه السلام) بالطفل الرضيع الى ساحة المعركة وأمام معسكر يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لكي يتم الحجة عليهم ولكي يفضحهم أمام العالم بأنهم ليس لهم شرعية ولا منهاج لا في الحكم ولا في إدارة السلطة والدليل على ذلك عدم رحمهم للطفل الصغير في ساحة المعركة.
فاستشهاد عبد الله الرضيع هو فضح نوايا حقيقية للمعادين لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليه السلام).
ويدعون أن الامام الحسين (عليه السلام) قد خرج على أمر يزيد (عليه لعنة الله) ويستحق القتال، أذن ما هو ذنب عبد الله الرضيع (عليه السلام) الذي كان عمره ستة اشهر! هل في هذا العمر يستطيع أن يرمي سهما أو يضرب رمحا أو يضرب بالسيف؟ ولا نعلم هل عبد الله الرضيع خرج عن امر يزيد (عليه اللعنة)! أنه كان أصغر من قتل في كربلاء، كان أصغر من أريق دمه الطاهر، كان نجما صغيرا في الحجم، لكنه كان أكبر من كل الشموس المتوهجة في الكون، عندما أريقت قطرات دمائه على وجه الحسين "عليه السلام" كان الإمام بذلك يوقع على وثيقة شهادته الكبرى أمام محكمة التاريخ.
واذا أردنا موثوقية ثورة الامام الحسين (عليه السلام) لوجدنا باستشهاد عبد الله الرضيع الحجة البالغة لله وللإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة الطف بكربلاء.
مـهـما نَـسِيتُ فـلا أنـسَى وقـد........كَـرَّتْ عـلى قَـتْلهِ الأفـواجُ والزُّمَرُ
كـم قـامَ فـيهم خـطيباً مُـنذِراً وتَلا........آيـاً فـما أغَـنَتِ الآيـاتُ والـنُّذُرُ
دَعَـوتُموني لنصري.. أينَ نُصرُكمُ؟!........وأيـن مـا خَـطّتِ الأقلامُ والزُّبُرُ؟!
هل مِن راحمٍ يرحمُ الطفلَ الرضيعَ وقد........ جَـفّ الـرَّضاعُ وما للطفلِ مُصطَبَرُ
نقل المؤرخون أنه قد حدثت حالة من الاضطراب في وسط الجيش، فإن بعض من بقي فيهم بقية روح أو وجدان قد استثارهم هذا المنظر، واستدعى إحتجاجهم فقالوا: إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار؟
ان عبد الله الرضيع الصغير صاحب المقام الكبير عند الله تعالى هو البرهان والحجة على سلامة نهضة الامام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء.
لقد اعتدى بنو أمية على الطفل الرضيع فسقطوا في فخ عدم القدرة على تبرير حربهم الظالمة على آل البيت (عليهم السلام).
تقول سيدتي الحوراء زينب مخاطبة يزيد (عليه اللعنة) في مجلسه في الشام: " فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا....
قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): فلم تَسقُط منه قطرة، وفيه يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فَرجَه: السلام على عبدالله الرضيع، المرميِّ الصَّريع، المُتَشحّطِ دماً، والمُصْعَدِ بدمهِ إلى السماء، المذبوحِ بالسهمِ في حِجْرِ أبيه، لعَنَ اللهُ راميه « حرملةَ بنَ كاهلٍ الأسديّ » وذويه.
الإمام الحسين (عليه السلام) يوم المفاداة العظمى ذبح طفله بين يديه كما أخرج نبي الله صالح عليه السلام فصيل الناقة الى بني إسرائيل بعد قتلهم الناقة وناداهم إن كنتم قتلتم الناقة فها هو فصيلها خزوه لتسقوه يرفع عنكم العذاب ولكنهم ألحقوا الفصيل بالناقة قتلا، فصب عليهم ربهم العذاب صبا.
ومن هنا جاء قول الحسين (عليه السلام): (اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح).
ساعد الله قلب العقيلة الحوراء زينب (عليها السلام)... وقد رسمت على خديك دموع ثلاث... واحدة سقطت على قطيع الكفين أبي الفضل العباس (عليه السلام) وثانية على نحر الطفل الرضيع (عليه السلام) وثالثة على نحر الإمام الحسين (عليه السلام).
لـهفي عـليهِ حـاملاً طِـفلَهُ........يَـستَسقي مـاءً مِـن عِداهُ لَهُ
فـبَعضُهم قـد قـالَ: رِفـقاً به........وبَـعضُهم قـالَ: اقـطَعوانَسْلَهُ
لـمّا رأى حَـرملةٌ مـا جرى........أرســلَ قـبلَ قـولِهم فِـعلَهُ
أهَـلْ درى حَـرملةٌ مـا جنى........أم هل درى ما قد جنى، وَيْلَهُ؟!
سـهمٌ أصـابَ نـحرَه.. لَـيتَهُ........أصـابَ نـحري لَـيتَهُ قـبَلهُ
أمُّ الـذَّبـيحِ مُـذْ رأتْ طِـفلَها........يَـضرِبُ مِـن حَرِّ الظمأ رِجْلَه
سـبعةَ أشـواطٍ لـه كـابدَتْ........وهْـيَ تـرى مـمّا بـه مِثْلَهُ
وأمُّ مـوسى مذرات طـفلَها........فـي الـيَمِّ قـد ظَـنَّتْ به قَتْلَهُ
هـذا سَـقاهُ اللهُ مِـن زمـزمٍ........وفَـرعُ هـذا قـد رأى أصلَهُ
أيـنَ ربـابٌ مـنهما مُذْ رأتْ........رَضـيعَها... فـيضُ الدِّما بَلَّهُ!
تـقولُ: عـبدُالله يَقضي ظَمىً........والـماءُ يـجري طامياً حَولَهُ!
كـنتُ أُرجّـي لـي عزاءً بهِ........مـا كـنتُ أدري أن أرى ثُكْلَهُ
عاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المخيم يوم عاشوراء وهو منحني الظهر، وإذا بعقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليها السلام) استقبلته بِعبدِ الله الرضيع (عليه السلام) قائلةً: أخي، يا أبا عبد الله، هذا الطفل قد جفَّ حليب أُمِّه، فاذهب به إلى القوم، عَلَّهُم يسقوه قليلاً من الماء.
فخرج الإمام الحسين (عليه السلام) إليهم، وكان من عادته إذا خرج إلى الحرب ركب ذا الجناح، وإذا توجه إلى الخطاب كان يركب الناقة.
ولكن في هذه المَرَّة خرج راجلاً يحمل الطفل الرضيع (عليه السلام)، وكان يظلله من حرارة الشمس.
فصاح: أيها الناس، فَاشْرَأَبَّتْ الأعناق نحوه، فقال (عليه السلام): ـ
أيُّها الناس، إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار.
فاختلف القوم فيما بينهم، فمنهم من قال: لا تسقوه، ومنهم من قال: أُسقوه، ومنهم من قال: لا تُبقُوا لأهل هذا البيت باقية.
عندها إلتفت عُمَر بن سعد (لعنه الله) إلى حرملة بن كاهل الأسدي (لعنه الله)(5).
وقال له: يا حرملة، إقطع نزاع القوم.
يقول حرملة: فهمت كلام الأمير، فَسَدَّدتُ السهم في كبد القوس، وصرت أنتظر أين أرميه.
فبينما أنا كذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى رقبة الطفل، وهي تلمع على عضد أبيه الحسين (عليه السلام) كأنها إبريق فِضَّة.
فعندها رميتُهُ بالسهم، فلما وصل إليه السهم ذبحه من الوريد إلى الوريد، وكان الرضيع مغمىً عليه من شدة الظمأ، فلما أحس بحرارة السهم رفع يديه من تحت قِماطِهِ واعتنق أباه الحسين (عليه السلام)، وصار يرفرف بين يديه كالطير المذبوح، فَيَالَهَا من مصيبة عظيمة.
وعندئذٍ وضع الحسين (عليه السلام) يده تحت نَحرِ الرضيع حتى امتلأت دماً، ورمى بها نحو السماء قائلا:
اللَّهم لا يَكُن عليك أَهْوَنُ مِن فَصِيلِ نَاقةِ صَالح، فعندها لم تقع قطرة واحدة من تلك الدماء المباركة إلى الأرض، ثم عاد به الحسين (عليه السلام) إلى المخيم.
فاستقبلَتهُ سُكينة وقالت: أَبَة يا حسين، لعلَّك سقيتَ عبدَ الله ماءً وأتيتنا بالبقية؟
قال (عليه السلام): بُنَي سكينة، هذا أخوكِ مذبوحٌ من الوريد إلى الوريد.
لقد تذكر حرملة (عليه اللعنة) أنه حينما استهدف عبدالله الرضيع بنبله المسموم ذو ثلاث شعب فذبحه من الوريد الى الوريد وهو على يدي أبيه سيد الشهداء وسبط الرسول، حفر والده الإمام الحسين (عليه السلام) بغلاف سيفه قبرا صغيرا خلف الخيمة ودفن جثمانه الصغير، فذهب إلى محل الدفن وحفر القبر واستخرج جثة عبدالله الرضيع (عليه السلام) وقطع رأسه بخنجره وأتى به إلى تلك القبيلة الفاقدة للرأس، فعلقوا رأس عبدالله عليه السلام فوق الرمح، ولأن الرأس كان صغيرا، والرمح أكبر منه، ولم يقف على الرمح، ربطوه بالحبال إلى أن انتصب على الرمح، و أمه الرباب تنظر إليه...
وهكذا رفع وقطع نزاع القوم، كما رفعه من قبل حينما طلب الإمام له ماءا، فحصلت بلبلة وهمهمة بين القوم، ولكنه قطع ذلك النزاع، بسهم ذو ثلاث شعب ذبحه من الوريد إلى الوريد...
روي المنهال أنه لما أراد الخروج من مكة بعد واقعة الطف بسنوات، إلتقى هناك الإمام علي بن الحسين زين العابدين السجاد.
وسأله الإمام السجاد (عليه السلام) عن حرملة، فقال: هو حي بالكوفة، فرفع الإمام يديه وقال: (اللهم أذقه حر الحديد، اللهم أذقه حر النار).
ولما قدم المنهال الى الكوفة قصد المختار، وبينما هو عنده إذ جاءه بحرملة، فأمر بقطع يديه ورجليه ثم رميه في النار، فأخبره المنهال بدعاء زين العابدين (عليه السلام) على حرملة.
فابتهج المختار كثيرا لأن إجابة دعوة الإمام السجاد (عليه السلام) تحققت على يده (6).
اضف تعليق