هي الثورة الحسينية بكمها الهائل من الدروس والعبر والأحداث والمتغيرات والمكتسبات، احداث ومكتسبات ومتغيرات، عكست وغيرت ونظمت مجرى التأريخ، فتحولت وتغيرت روح الماضي وكأنها روح مجتمعية تتجدد في النفس البشرية، لتنبثق منها طهارة الذات وصلاح الذات في كل عام. هو مارثونٌ خالد... يستذكره المسلمون في كل عام بروح جديدة معطرةٌ بأصالة الماضي، ومزخرفةُ بأسس ومبادئ نشوء الحضارات وتطور المجتمعات، استلهم منها احرار العالم أجمع خُططهم ومناهجهم في تغيير حال شعوبهم ومجتمعاتهم نحو مستقبل جديد مضيئ منير بنور محمدي ما أن تستلهمه النفس الحرة الأبية الا وتنطلق برحلة اصلاحية تتحطم من خلالها قيود الاضمحلال.
هي اجساد طرقتها شمس عام (61 هـ) فلم تنل منها، بل تسببت الاجساد بخجل للشمس ضعف بفعله شعاعها على بني آدم أجمع، ومن هنا انبثقت فلسفة الرحمة الالهية، وكأن رحمة الدماء الزكية التي سالت آنذاك استلهمت منها الشمس الحارقة فخففت من حدة لهيبها على الناس أجمعين، والقصد ان الرحمة والنور والخلود تأسس منذ أن سقط سيد الشهداء وأصحابه واخوته وبنوه صرعى على رمضاء كربلاء، بقوة السيف والدم، وصمود الجماعة.
ومنذ ذلك الحين، الى هذا اليوم، لاتزال الثورة الحسينية، وأربعينية الحسين (عليه السلام) على وجه الخصوص، تمثل ماراثونا خالدا يجمع بين حالتين: (الماضي الأصيل)، و(الروح الاصلاحية المتجددة)، وكأننا أمام نظرية (البطل في التأريخ) تلك التي يبني عليها الغرب طروحاتهم في عمليات التغيير والتجديد. هي ثورة تختفي مع أحداثها أساطير الأنانية الفردية، ويذوب بين سطور ومواقف اصحابها، ومن أحيا شعيرتها جشع النفس البشرية، وكأنه لم يكن شراً وفجوراً فيها يذكره القرآن، فيمشي الجميع على خطى الحسين مشياً على الاقدام، تختفي مع نغمة المشي طبقات المجتمع، ويتوقف عمل العنصرية العالمية الى اشعار آخر، فيحل محلها التكامل الاخلاقي، والتكافل الاجتماعي، ويتساءل حينذاك الجميع، تساؤلات عديدة ملحقة بعجب شديد!!
أين الفقير؟؟؟!!!، أين الفقير؟؟؟!!!، أين اليتيم؟؟ !! واين اختفى بؤس الجياع؟؟!!، واين الاغنياء من البؤساء؟؟!!، وأين المريض بين الماشين على الأقدام؟؟!!، وأين الاختلافات بين الناس؟؟!!، أين غاب كل ذاك؟؟!!، وأين تلك الأحداث التي سببت أمراض المجتمع؟؟!!، وتسببت بتناحراته وانقلاباته، فتحولت هموما وسموما قاتلة تعترض مسيرة المجتمعات نحو الاصلاح. هي اذن ثورة لها مبادئها الأصيلة العريقة، وروحها المتجددة، التي ما أن يستلهم الفرد منها قيم ومبادئ، ويعاهد نفسه ويحث مجتمعه على المضي بها ومعها الا وتغيرت نحو الافضل روحه وروح مجتمعه.
ان الاشكال الذي يحدث في كل عام، ويتسبب في انقطاع صلة المجتمع بروح الثورة الحسينية، ويساهم في تصدع فكري أيديولوجي يقود الى ابتعاد الانسان عن واقعية الثورة، هو عدم ديمومة عمل النفس البشرية على نهج المعرفة الحسينية، او ابعادها لمدة عام الا اربعين يوما إيديولوجيا عن أيديولوجيا الثورة الحسينية. ان الأربعين يوما وبقدر ما تحدثه من تغيير في عدد كبير من الاشكالات المعرفية والفكرية والسلوكية، الفردية والمجتمعية، يقف عندها تحقق المشروع الاصلاحي الحسيني العالمي الكبير، بمعنى ادق ان هناك حالة واحدة، او عنصر واحد، يفقده الفرد والمجتمع، هذا العنصر يتسبب بضياع البوصلة الاصلاحية، العامل متمثل بضرورة ادامة الزخم الثوري، وذلك للإطالة في أمد المشروع الاصلاحي الذي أراد الحسين عليه السلام تعميق اصوله وجذوره في النفس البشرية، بحيث تتحول النفس البشرية من حالة السلب الى حالة الايجاب، وما ان تتغير حالة النفس باتجاه مؤشرات الايجاب الا وتكون معها بداية النهاية للحالة المأساوية التي يعيشها الفرد او المجتمع هذا ما يؤكده الفكر الحديث وتؤصل وتؤسس له الثورة الحسينية خير تأصيل وأفضل تأسيس. حتى نظرية التطور الحديثة التي تعتمدها المجتمعات الغربية في سعيها الحثيث نحو ادارة مميزة للذات تعطي الانتقال من الحالة السلبية الى الحالة الايجابية اهمية بالغة في عمليات التغيير الثقافي او السلوكي، بل ولاتزال تمثل نظرية فرض الحالة الايجابية مدرسة مهمة من مدارس تغيير وتعديل السلوك على مستوى علم النفس العام، وعلم الاجتماع المعرفي.
القصد من ذلك هو ان هذا الكم الهائل من الدروس والعبر والحالات التي من يمارسها الانسان وهو يعيش احياء الشعائر الحسنية (الأربعينية انموذجا)، تجعله على تماس مباشر مع الفضيلة والخير والكمال والمثل والقيم السمحاء، بل ستجعل منه عنصرا فاعلا منتقلا ومتغيرا ذاتيا الى (الحالة الايجابية). فالمجتمع هو كائن اجتماعي كبير يتكون من عدد من العناصر نطلق عليهم تسمية (الناس)، بمعنى واضح ودقيق ان الحالات الايجابية المتكررة والمنتقلة من انسان الى آخر، سوف تساهم في صناعة مجتمع يعيش (حالة ايجابية)، وفقدان المجتمع لهذه الحالة المتمثلة بقيم ومبادئ الثورة الحسينية التي ساهمت في تعميق الفضيلة وتكريس نزعات الخير في النفس البشرية يعني موت الثورة في النفس، وسينتقل الانسان بشكل مباشر الى (الحالة السلبية) بسرعة تفقده الزخم المعرفي المتكون من الخير والفضائل المكتسبة فيعيش الانسان حالة تراجعية ينتج عنها مجتمع تراجعي، لان الرذيلة سوف تحل محل الفضيلة، والشر سوف يحل محل الخير، والتنازع سوف يحل محل التراحم، والتعايش الجمعي سيتم استبداله بالأنانية والانعزال الفردي، وذوبان الاختلافات سيحل محلها التمييز بأنواعه، وانتفاء الطبقات الاجتماعية سوف يتم استبدالها بالتمايز الطبقي، فيطفو البؤساء فوق بحر جحيمهم، ويعود الحقد الاجتماعي الطبقي سرطانا يعترض المجتمع ويحول دون اكمال مسيرته نحو نيل المكتسبات والفضائل، لتبقى الثورة الحسينية روحا جديدة في كل عام تؤصل وتؤسس لفضائل دائمة وخير لا انقطاع له، وتكافل اجتماعي تخلو الارض من مثيل له، وتوحيد طبقي يخلو من تقسيمات وتشريعات العصر الحديث المتضمنة تصنيف المواطنين الى مواطن من الدرجة الاولى، او الثانية او الثالثة.
ثورة الحسين (ع) هي روح اصلاحية متجددة تسأل وتبحث عن مجتمع يستثمر وجودها على الارض ليُشكل من خلال قيمها ومبادئها مدينة لله على وجه الارض، تصل معها الانسانية الى (الذروة الاجتماعية) التي تنتهي وتتوقف عند حدودها الرغبة الالهية اللامتناهية في تشكيل مدينة الفضيلة والكمال التي تمهد لظهور دولة العدل الالهي، الدولة التي يتوقف عندها الزمان والمكان ليعلنا نهاية الاختبار الالهي للنفس البشرية، الذي يمثل غاية خلق الانسان.
بمعنى ادق: ان قيم الثورة الحسينية ومبادئها: هي حالة ايجابية فضلى سوف تساهم في تحقيق الارادة الالهية، وتزيد من رصيد الانسان في الاختبار الالهي، فيتحول الانسان من جراء ذلك الى انسان منتج، مثمر، فاعل، ثم مجتمع منتج فاعل ديناميكي يسير نحو الفضيلة والكمال بأسس ثابته، لذلك ستبقى الثورة الحسينية ماراثون خالد، ينبع نهر فضائله من أصالة لا تموت، لينشر عطر الاصلاح على النفوس البيضاء والقلوب الخاشعة أينما حلت وفي أي زمان ومكان كانت.
اضف تعليق