كل الطرق المؤدية الى كربلاء المقدسة، والى مرقد الامام سيد الشهداء، عليه السلام، تزدحم بالزائرين سيراً على الاقدام، وهم بين ايراني وافغاني وباكستاني وعراقي ولبناني، وبين ذو البشرة البيضاء والبشرة السوداء، وبين من هو عربي أو تركماني او كردي، وبين الغني والفقير، ومن يحمل هذه الفكرة وذاك الاتجاه، ويتبع هذه الجماعة او تلك. كل هذه الفوارق الموجودة خارج نطاق كربلاء الحسين، تذوب هنا وتتلاشى عند المواكب الخدمية وعلى موائد الطعام وعند مواقف الاستراحة وفي كل مكان.
إن "التمييز" في معناه السلبي، على أساس العرق او اللون أو الجنسية، شكّل أزمة ثقافية وحضارية شّدت بخناقها على البشرية طيلة القرون الماضية. ودفع الانسان نفسه، أثمان باهظة لقاء عدم وجود حل جذري وناجع لهذه الازمة، وكان الحل الاخير، في خلق أوطان ضمن مساحات جغرافية محددة، فجعلت هذا من هذا البلد وذاك من بلد آخر. بيد أن هذا "المواطن" ما أن يخرج من حدود بلده حتى يجد نفسه غريباً ومحكوماً باجراءات وقوانين جديدة تتعارض مع قوانين بلده، بل ربما تتعارض ايضاً مع ثوابته الدينية. ولكن؛ في الطريق الى كربلاء المقدسة لن يجد أي انسان قادم من أي مكان، ويتحدث من بأية لغة في العالم، بانه غريب او يتعرض للتمييز عن الآخرين، لان الهوية التي يحملها مع الملايين من البشر أنه؛ "زائر الاربعين".
الدرس الاول من يوم الواقعة
هل من السهّل غضّ النظر عن نزعة التميّز المتفاعلة في نفس الانسان دائماً؟، أي انسان، يحب لنفسه الصدارة والوجاهة والكثرة والغلبة، في مختلف الجوانب؛ من مال وعلم وقوة وغيرها. ثم فجأة وخلال ساعات، وما أن يضع رجله على طريق المشاة في زيارة الاربعين، يشعر بعدم الحاجة الى كل هذه التميّزات المكلفة، لان النهضة الحسينية اكبر من جميع تلك الأطر – رغم حجمها وعِظم خطرها- المميزة، فالتميّز الحقيقي في الانسانية التي صاغها الامام الحسين، عليه السلام، بتضحياته وبدمه، فاذا لم يجد الانسان انسانيته لن يجد أي شيء في الحياة، وهذا ما وهبه الامام، عليه السلام، لذلك الغلام التركي في ساحة المعركة عندما سقط صريعاً وفيه رمق من الحياة، فوضع خده على خد ذلك الغلام لانه خاض المعركة ليثبت انسانيته بالحرية والكرامة بين جميع الاحرار من حوله في معسكر الامام، فما كان من الإمام إلا أن يحقق طموحه أمام التاريخ والاجيال ويؤكد له أنه انسان حقيقي وحر وشريف. وقد نقل الرواة أن ذلك الغلام بدأ يباهي الجميع بأن الامام الحسين، عليه السلام، وضع خده على خده كما فعل الشيء نفسه قبل قليل مع ولده، علي الأكبر، عليه السلام، بخلاف أولئك الذين كانوا في الجبهة الاخرى، وهم يعدون انفسهم أحراراً ويتفاخرون بانتماءاتهم وقدراتهم، بيد أنها لم تحقق لهم السعادة الدنيوية، لانهم جعلوها محور وجودهم وكيانهم، وبخذلانهم من قبل من حاكم الكوفة؛ ابن زياد، وعدم تكريمهم بما كانوا يتوقعون، تحولوا خلال لحظة الى أذلاء خاسرين.
ولابد من التذكير بأن ذوبان الفوارق، مبدأ أسسه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، مع تشييد الحضارة الاسلامية، عندما حارب الرقّ والعبودية وأطلق مفهوم الأخوة الاسلامية بديلاً عن العصبيات والانتماءات القبلية والفئوية. بيد أن المنهج لم يجربه المسلمون عملياً، إلا في واقعة الطف عندما اصطف الاسود مع الابيض، والمسلم مع المسيحي والعبد مع الحر، لنصرة القيم والمبادئ ومواجهة الباطل والطغيان.
مكاسب حضارية
في هذا الطريق الطويل الذي يستغرق لدى البعض، أياماً عديدة وأسابيع، تتمخض فوائد جمّة للزائرين انفسهم، فهم لا يسيرون الى حرب او خوض مكاره – لا سمح الله- بل العكس، نراهم يشقون صفوف المواكب الخدمية على مدى عشرات الكيلومترات، حيث الطعام والشراب والخدمات الطبية والمبيت وغيرها كثير، إنما يسيرون في موكب مشترك مع زائرين من مختلف انحاء العالم، وهناك مواقف استراحة ومبيت ولقاءات واحاديث جانبية وتعاون وتكافل تحدث في الاثناء – بلا شك- بين الغني والفقير، وبين الخليجي والباكستاني، او بين العراقي وبين الافريقي وهكذا... وهو من شأنه ان يذيب ، ليس الفوارق هذه المرة، إنما جبال من المشاكل والازمات التي تعاني منها الامة، ولو بشكل تدريجي، او لنقل؛ بدايات الحل، او ومضات لافكار في حل أزمات عجز عنها الساسة والمفكرون، مثل أزمة الوعي وأزمة الحقوق وأزمة العدالة وغيرها مما تسبب لابناء هذه الازمة أن تدفع اثمان باهضة بالدماء والثروات الهائلة والدمار الشامل لقاء سرقة الساسة واصحاب المصالح حق تقرير المصير، والتفكير بالنيابة والتخطيط وفق ما تشتهيه الدوائر المخابراتية واصحاب الرساميل الضخمة، لا ما تقضيه مصلحة الامة وحياة الانسان وكرامته.
مثال ذلك؛ ما يمر به الشعب العراقي من اختبار عنيف في تماسكه الاجتماعي وثقافته وهويته، فقد أثبت للعالم أجمع، وللمسلمين بأنه جديرٌ بالاقتداء والفخر ثم الدعم بمختلف الاشكال، لما قدمه من تضحيات وما يزال يسطّر الملاحم البطولية في سوح الجهاد والملاحم الانسانية في بيوت عوائل الشهداء وفي مشاهد التطوّع والتضامن والدعم والاسناد بمختلف اشكاله، لمواجهة الارهاب التكفيري بممارساته الدموية وفكره الجاهلي، الذي سمع به العالم للتوّ عندما بلغ المدن الغربية، بينما كان يهدد حياة الملايين من ابناء الشعب العراقي طيلة السنوات الماضية، حتى كان نفس هذا المسير لزيارة الاربعين محفوفاً بالمخاطر وأشبه ما يكون بالسير على الالغام، بيد أن هذا الشعب، بتحمله المسؤولية والتفافه حول قيادته المرجعية، أمّن هذا الطريق لملايين الزائرين من كل انحاء العالم الى كربلاء المقدسة، ليتذوق الجميع طعم الأمان في العراق وفي كربلاء المقدسة.
طبعاً؛ هذا جزء من الفوائد الممكن استخلاصها من مسيرة الحشود المليونية هذه الايام نحو كربلاء المقدسة، فهناك الفائدة الاجتماعية، حيث تتبلور اكثر فاكثر مفاهيم التكافل والتعايش وتبادل الافكار وتعميق الاخوة الاسلامية. بيد أننا في هذا الحيّز المحدود، ارتأينا تسليط الضوء على ما هو أولى وأقرب الى الواقع وما تعيشه الامة من تحديات وأزمات مصدرها مشترك وهو فتنة التكفير والطائفية والقراءة الخاطئة للدين.
من هنا يمكن القول: أن الزائرين الذين تخلّوا عن كل الفوارق والمميزات في كربلاء الحسين، واتحدوا في شعار واحد؛ "لبيك ياحسين"، سيعودون الى أهلهم وديارهم وهم روح التصدّي والمسؤولية، وتذكير الآخرين بأنهم يعيشون في سجن الحدود المصطنعة والانتماءات الضيقة، ومجرد القبول بهذه الفوارق هو الذي مهّد الارضية لظهور فرقة ضالة تبشر ضعّاف النفوس والايمان بالسراب وما يعدونه "دولة اسلامية" كذباً وتزييفاً، وهي أشبه ما تكون بالدولة الأموية "حذو النعل بالنعل"، وليست بالدولة التي أرادها رسول الله للمسلمين، بأن يكونوا جميعاً "كأسنان المشط".
اضف تعليق