وحان وقت الرحيل ليتكرر السبي والالم المرير، فَرِحلُ السبايا الى الشام يسير، تتقدمهم رؤوس على الرمح تنير، وخلفهم نساء واطفال تشكوا بَثها وحُزنها الى العلي القدير. ترحالٌ بين محطات مختلفة بطعام وشراب قليل، وقسوة ووعورة طريق ليس بقصير.. تضيف لآلام الفقد آلام العذاب والمعاناة، أفئدة جفت غرفها ويبست عروقها من هول ما رأت من ويل ومصاب أمامها.
افكار زينبية مشتتة.. فزينب عليها السلام تعلم جيدا ان سبيها الى الشام لن يكون امرا سهلا، ورحلة الى رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، كما وصفه الامام الحسين عليه السلام "عندما طلب يزيد من الامام البيعة"، نعم.. تعلم حامية العيال والنساء إنها مسبية الى شخص عشق الظلم حتى تطاولت يداه لقتل سيد شباب اهل الجنة.
رحلتهم الجديدة ألبسها لون مختلف، حيث امر بتسيير السبايا والرؤوس من اطول طريق مأهول بالسكان، على الرغم من انه كان بإمكانهم تسييرهم عبر الطرق الصحراوية القصيرة الواصلة بين الكوفة ودمشق. فأحقادهم الجاهلية وضغينتهم البدرية، دفعتهم الى الانشاد بهدفهم، الا وهو حب التشهير بمقتل الحسين عليه السلام والى اذاعة خبر وفاته بالآفاق، ليعلم الناس بقتله، ولكي لا يبقى اي أمل لمحبي اهل البيت في مقاتلة يزيد، بعد ان قتل ابن بنت نبيهم.
فسلكوا بالرؤوس والسبايا.. المدن وضفاف الانهار، واول منزل لهم دير في الطريق ثم القادسية شرقي الحصاصة ثم عبروا تكريت طريق البر، دير عروه، وادي النخلة، ارمينا، لينا، الكحيل، جهينه، عسقلان، الموصل، تلعفر، جبل، سنجار، نصيبين، دعوات، قنسرين، جبل الجوشن قرب حلب، معرة النعمان، شيرز، كفرطاب، سيبور، حماة، حمص، بعلبك، دمشق.."الزنجاني ص369"
اما رواية صاحب القمقام.. انهم مروا على تكريت. دير عمر، وادي النخلة، لينا، وادي الكحيلة، الجهينة. نصيبين. عين الوردة، حرّان، حلب، معارة النعمان، شيرز، حمص.، بعلبك، دير النصارى، دمشق. وقد كان الناس في مناطق المرور هذه إما مهلل ومستبشر بقتل اولاد الرسول.. وإما رافض ومغتم ومحاول للثأر والثورة، لكن جور السلطان يردع مثل هؤلاء القلة فيجلسون حسرى ومكبلي الايدي، غير قادرين على دفع ضرر او تقديم منفعة.
لكن على الرغم من كل هذا نجد اشخاصا كزرير الخزاعي احد التجار الذين شاهدوا السبايا اثناء مرورهم بمدينة عسقلان، فعندما علم بأن هؤلاء سبايا ال البيت "عليهم السلام" بكى عند زين العابدين وعرض عليه المساعدة بقدر ما يستطيع، ثم جادل الشمر اللعين مما ادى لتعرضه للضرب حتى اغشي عليه، فتركوه ظنا منهم انه مات. اما عن فترة مسيرهم من الكوفة الى دمشق فتشير الروايات الى دخول السبايا والرؤوس دمشق في غره شهر صفر، اما المسافة من الكوفة الى دمشق عن طريق الموصل وحلب حوالي 1800 كم.
رحلة مريرة، وأيام عسرة، فسبي أوله رؤوس على الرماح، وأوسطه خوف ونساء وعيال، وآخره مجهول. وقد عبر الامام علي بن الحسين "عليه السلام" عن ذلك... فعن الامام جعفر إبن محمد "عليه السلام" قال لي أبي محمد الباقر "عليه السلام": سألت أبي علي بن الحسين عليه السلام عن حمل يزيد له فقال: حملني على بعير يظلع (أي جمل يعرج في مشيته) بغير وطاء، ورأس الحسين "عليه السلام" على علم، ونسوتنا خلفي على بغال واكفة، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت عين من أحدنا قرع رأسه بالرمح، حتى إذا دخلنا دمشق، صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا اهل البيت.
نعم فقد وصلوا سبايا أهل البيت فخرج لاستقبالهم الرجال والنساء والصغار والكبار، حاملين معهم الطبول والدفوف والابواق وسائر آلات اللهو، مكحلي العيون، لبسوا أفخر الملابس وتزينوا أحسن زينة.. خرجوا ليشاهدوا السبايا والرؤوس بعد ان اوقفوهم على باب الشام ثلاثة ايام حتى يُكملوا تزيين المدينة بأبهى واجمل زينة.
وبعد ذلك جيء بالرؤوس والسبايا الى دمشق، وادخلوهم حسب اجماع اغلب الروايات من (باب توما).. ثم مروا بهم بعدة أبواب، باب جيرون وباب الفراديس وباب الساعات وعند وصولهم كان يزيد مطلاً على منظر في جيرون، فلما نظر الى السبايا والرؤوس قد وضعت على الحِراب، امتلأ سرورا وأنشد يقول:
لما بدت تلك الحمول واشرقت
تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت: قل او لاتقل
فلقد قضيت من الرسول ديوني
وعن سهل ابن سعد قال: ودخل الناس من باب الخيزران فدخلت في جملتهم، وإذا قد اقبل ثمانية عشر رأسا، وإذا السبايا على المطايا بغير وطاء، ورأس الحسين عليه السلام بيد الشمر وهو يقول:
أنا صاحب الرمح الطويل، أنا قاتل ذي الدين الاصيل، أنا قتلت إبن سيد الوصيين، وأتيت برأسه الى امير المؤمنين (يزيد بن معاوية) ثم دار الرأس، والسبايا على الابواب وتركوا عند كل واحده منها ساعة ليتفرج الناس ويشمتوا بهم، اما عند باب دار يزيد، فأمر اللعين بإبقائهم ثلاث ساعات الى ان يتم تجهيز وتزيين داره بأنواع الزينة، ثم نصب له سرير مُرصع، وعلى اطراف سريره كراسي من الذهب والفضة وجلس يزيد في سريره، وعلى رأسه تاج مُكلل بالدُر والياقوت، وحوله اربعمائة نفر من الامراء والاعيان وسفراء الملوك من النصارى وغيرهم، وحوله كثير من مشايخ قريش. (وسيلة الدارين في انصار الحسين ص383).
ثم ادخلت السبايا على يزيد وفي مقتل الخوارزمي يقول: ان اول من دخل شمر بن ذي الجوشن بعلي بن الحسين عليه السلام ويداه مغلولتان الى عنقه. وفي معالي السبطين للمازنداني.. حيث يذكر قول الامام الباقر "عليه السلام": أتى بنا يزيد بن معاوية بعدما قتل الحسين بن علي "عليه السلام" ونحن إثنى عشر غلاماً، وكان اكبرنا يومئذ علي بن الحسين فأدخلنا عليه وكان كل واحد منا مغلولة يده الى عنقه.
ثم أمر يزيد بإحضار السبايا بين يديه، فأخذ يسأل عنهم واحدة تلو الاخرى، ثم أمر بحط الرأس عن الرمح، وأن يوضع في طشت ذهب، ويغطى بمنديل ديبقي، ويدخل بِه عليه. فوضعوا رأس الحسين بين يدي يزيد، فقالت سكينة مارأيت اقسى قلباً من يزيد ولاكافراً ولا مشركاً شراً منه ولا أجفى منه.
واقبل يزيد يقول وينظر الى الرأس:
ليت اشياخي ببدر شهدوا
جرح الخزرج من وقع الاسل
فلما انشد هذه الابيات قال له علي ابن الحسين عليه السلام بل ما قال الله اولى:
(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد 22] فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30. فقال علي عليه السلام: هذا في حق من ظَلم، لا في حق من ظُلم. ثم قال عليه السلام (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) فسكت يزيد.
فقال علي بن الحسين يا ابن معاوية وهند وصخر، لم تزل النبوة والإمرة لآبائي واجدادي من قبل أن تولد. ولقد كان جدي علي بن ابي طالب في يوم بدر وأحد والاحزاب، في يده راية رسول الله "صلى الله عليه واله وسلم"، وابوك وجدك في ايديهما رايات الكفار.
ثم قال الامام:
ماذا تقولون إذ قال النبي لكم
ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
منهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم
وكان علي بن الحسين والنساء موثقين بالحبال، فناداه علي عليه السلام: يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا موثقين بالحبال، عرايا على اقتاب الجمال؟ فلم يبق في القوم الا من بكى. اما جبل الصبر فلما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزعبري قامت وخطبت خطبتها المشهورة، لتُعَرِف الملأ فظاعة اعمال يزيد، وتبين اهداف اخيها الحسين عليه السلام من نهضته واستشهاده. ثم أمر يزيد بإخراج الرأس الشريف من المجلس، وصلبه على باب القصر ثلاثة ايام.
وأمر بأن تُصلب باقي الرؤوس على أبواب البلد والجامع الاموي. وأمر بسبايا آل البيت "عليهم السلام"، الى سجن او حبس في مكان خَرِب، بدون سقف لا يحميهم ولا يكنهم من برد أو حر، حتى تقشرت جلودهم.
وبقي ال البيت لعدة أيام على هذه الحالة، لكن بعد رؤيا هند زوجته، وكذلك ما رأته جارية له في منامها، وما رأت سكينة عليها السلام في منامها.. وجميع الرؤى كانت تدل على قرب نهاية يزيد، وإنه سيحاسب ويعذب أشد تعذيب. لكن السبب الاقوى هو ما نشأ في قلبه من الخوف والرعب بسبب وقوع المحادثات بين الناس في شأنه وقرب ثوران الفتنة، واحتمال هجوم الناس عليه.
فنصحه مروان قائلا: لا يصلح لك توقف أهل بيت الحسين في الشام، فأعد لهم الجهاز، وابعث بهم الى الحجاز. فهيأ لهم المسير، وبعث بهم الى المدينة.. لتعود رحلة الحزن من جديد.
اضف تعليق