وكانت القصائد الحسينية الخالدة التي أبدعها فكر الشعراء الموالين والمحبين للإمام الحسين وآل البيت (ع) هي الرائدة والقائدة لتلك الشعائر، لذلك من كتب القصيدة الحسينية كان يتعرض الى بطش السلطة والاعتقال والقتل والتشريد، والتاريخ يحدثنا عن حوادث تؤكد هذا القول، وهذا ما يعدم الاعتقاد بوجود التملق او...

يشير معظم المختصين بان النشيد الوطني ينمي حب الوطن في القلوب ويعزز من الانتماء إليه، وظهر النشيد الوطني بشكله الحديث منذ القرن السادس عشر في أوربا وفي هولندا على وجه التحديد، إلا أن بعض الدراسات المتخصصة تشير إلى انه قديم قدم ظهور التجمعات الإنسانية، لذلك تجد جميع الدول لها نشيد وطني يميزها عن غيرها، 

ثم ظهر النشيد الوطني لمؤسسات دولية غير الدولة، بل أصبح لبعض الفعاليات الرياضية الكبرى نشيدها الوطني الخاص وآخرها النشيد الأولمبي، الذي يقرأ في افتتاح الاولمبياد، ومعنى ذلك ان المناسبات الكبرى اقترنت بنشيد يقترن بها ويعبر عن مضامينها، كما يرى احد الكتاب ان النشيد الوطني اعلان عن الهوية بهذه الفعاليات الرسمية وغير الرسمية، ووظيفة النشيد هي تعزيز الانتماء لفكرة المناسبة او الفعالية، 

لذلك ونحن في أيام الزيارة الاربعينية ونسمع الكثير من القصائد الحسينية العاشورائية، المؤداة بأصوات الرواديد او التي يلقيها الشعراء في المحافل ومن على المنابر، وجميعها عظيمة الشأن جليلة القدر، لأنها تعبر عن صدق النوايا تجاه قضية عاشوراء وفكرة الثورة الحسينية، ولا أرى أي فرصة لان تكون هذه القصائد ذات غرض انتهازي او نفعي، وانما هي صادقة في تعبيرها عن العزاء والمؤاساة، لا تشوبها شبهة الرياء او التملق، لان جميع من كتب للإمام الحسين (ع) وللثورة الحسينية بمجمل تفاصيلها، لم يكن يلقى القبول من السلاطين والحكام منذ الدولة الاموية وحتى يومنا الحاضر، بل ان دول جعلت من أهدافها الاستراتيجية محاربة الثورة الحسينية والأفكار الناشئة عنها، مثال ذلك الدولة الاموية وسواها، والتاريخ يشهد بذلك.

اما في العصر الحاضر فالجميع عاصر التضييق على الشعائر الحسينية، وكانت القصائد الحسينية الخالدة التي أبدعها فكر الشعراء الموالين والمحبين للإمام الحسين وآل البيت (ع) هي الرائدة والقائدة لتلك الشعائر، لذلك من كتب القصيدة الحسينية كان يتعرض الى بطش السلطة والاعتقال والقتل والتشريد، والتاريخ يحدثنا عن حوادث تؤكد هذا القول، وهذا ما يعدم الاعتقاد بوجود التملق او التزلف في القصائد الحسينية، لأنها في كل اوصافها كانت صوت المعارضة للطغيان والظلم والفساد.

فضلا عن الأغراض الأدبية الأخرى التي ادتها تلك القصائد الفصيحة والعامية، من خلال الحفاظ على جذوة الثورة الحسينية وديمومتها، وكانت ذاكرتها التي تناقلتها الأجيال، وفيها من القصائد الوصفية التي وصفت واقعة الطف بكل ابعادها الإنسانية والوجودية والمعاناة قبل اشتداد القتال واثنائه وبعده، عند تصويرها وتجسيداً لمسيرة السبايا، حتى انها أصبحت مادة للكتابة الأدبية والثقافية في جميع مجالاتها من رواية وفنون الرسم والمسرح، وفي مجال الشعر ظهر لنا الشعر الحسيني بكل انواعه وصنوفه، وفي مجال القراءات الصوتية اللحنية ذات الأسلوب الشجي والحزين في النعي من على المنابر، والاهازيج الحماسية التي تستنهض الهمم في أيام عاشوراء.

وجميع القصائد الحسينية فيها العاطفة الصادقة والمشاعر الحقيقية، الا ان بعضها له خصوصية، تميزت بها سواء بكلماتها او في غرضها، وحتى في شكل كتابتها وأسلوب قراءتها على المنبر، ومن تلك القصائد الخالدة (قصيدة يحسين بضمايرنه) وعنوانها هو نداء موجه الى الامام الحسين عليه السلام يقول فيه الشاعر (يا أيها الامام الحسين انك خالد في ضمائرنا) لكن نحت المفردات وضرورة الكتابة الشعرية بالعامية دعت الشاعر الى كتابتها بشكلها الشائع.

وفي هذه القصيدة وانت تستمع اليها لا تجد أي نعي او نقل لمواساة او وصف لحجم الأذى، وانما فيها منهج ثوري مستمد من معاني ثورة الحسين (ع)، حيث يفتتح الشاعرة قصيدته بمناداة الامام بانه فكرة خالدة في الضمائر، واعتقد ان الشاعر حتى لو لم يقصد ان يختار عبارة الضمائر، فان الله سدد مسعاه الى تلك الكلمة، ونقلاً عن احد الكتاب يقول (ان الضمير وصف وكلمة تجسد كتلة ومجموعة من المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم تحكم الإنسان وتأسره ليكون سلوكه جيدا محترما مع الآخرين يحس بهم ويحافظ على مشاعرهم ولا يظلمهم ويراعي حقوقهم وباختصار شديد هو ميزان الحس والوعي عند الإنسان لتمييز الصح من الخطأ)، كما يقول فيكتور هوجو (الضمير هو صوت الله الموجود في الانسان) لذلك فان الحسين (ع) فكرة توقظ فينا الضمير الحي.

كما كانت هذه القصيدة عرضت لفكرة وجود الانسان وخلقه وهي رؤية فلسفية فيقول الشاعر فيها (بـتـكـويـن الـبـشـر يحسين متساوين نوعيّه... جـسـمـه ومـحـتوى واضح معروف ابتساويّه)، فاستمدت فكرتها في خلق الله للبشر على السواء وفي احسن تقويم. 

كما بينت القصيدة منهج الحياة تجاه الخير وان شخصية الحسين (ع) تجسدت فيها قيم الخير ونبذ الظلم والوقوف بوجه الطاغوت والظالم فيقول الشاعر (لمـسـنـه بـيك أبو الأحرار عرفنه الموت حريه)، بمعنى اننا لا نأبه اذا ما واجهنا الفاسد والطاغية، مع اننا ندرك اننا تحت طائلة الموت، لكن هذه هي حريتنا.

كما يقول الشاعر (لـمـسـنـه بـيـك أبي ومتلين وعرفنه الذل عبوديّه) فيوضح بان الإباء هو عدم الرضوخ للفاسدين والظلمة وهذا ما لمسناه بشخصك (يا حسين).

ثم تؤكد القصيدة ان حب الحسين والسير على خطاه لم يكن بعاطفة تؤجج فينا روح الانقياد الى الحسين (ع) فحسب، بل اننا ادركنا من هو الحسين (ع)، وما هي رسالته في ثورته على الظلم، فاتبعناه عن وعي وادراك وإرادة واننا نعلم ما سيصيبنا من اذى وما نتعرض له من مخاطر، لذلك كان وما زال اتباع الحسين ثائرين بوجه الطغاة والفاسدين ويعززها الشاعر بقوله (عن سـابـق عـلـم يـحسين عن تركيز بالفكره

... حـبـيـنـاك و تـبـعـنـاك ونتوقع قصص مره).

كما عبر الشاعر عن اهل الغدر المتربصين بالثورة الحسينية واتباعها سواء من الذين يجاهرون القول او من الذين يضمرون العداء ويوارونه برياء المظهر، فيقول (نـتـوقـع وقـت مـحذور ساعات التمر خطره.. 

مـا بـيـن الـيـكَـيـدنـه وبـين ايدبر الغدره) ويؤكد في القصيدة مع هذا الإحساس الا ان اتباعك وطنوا النفس على الشهادة فيقول (مـع احـسـاسـنـه هـذا و الـشفنه او ننتظره..آمـنـه و تـوطـنّـه عـلـى كل شي بعد يجره) ويسترسل الشاعر بنقل مفردات منهج الثورة الحسينية التي سار عليها اتباعه وانصاره وسيبقون على ذات المنهج طالما في الحياة نفس وفي العمر بقية.

لذلك وبرأي شخصي متواضع ومعبر عن انطباع متلقي تماهى مع مفردات القصيدة وصوت قارئها الملائكي الحسيني، وليس بقول مختص في الادب الشعبي او الفصيح او بالادب الحسيني، فأقول انها النشيد الوطني الحسيني الذي يردده اتباع منهج الحسين (ع).

سلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا وسلام على اهله وصحبه الذين استشهدوا بين يديه وسلام على من ناصره ومن سينصره في اتباع منهجه الثوري ضد الظلم والفساد. 

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق