بعد ساعات معدودة من ظهيرة العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، كان كل شيء قد انتهى على ساحة المعركة في كربلاء، بين جيش الامام الحسين، عليه السلام، وجيش عمر ابن سعد، وقد عاد الاخير بجيشه الى الكوفة، وهو يعد نفسه منتصراً من الناحية العسكرية، وحسب الاعراف آنذاك، فان الطرف الغالب، يجب أن يحزّ رأس المغلوب ويضعه فوق الرمح، ليراه الجميع، كما لو أنه من المفردات الاعلامية. الى جانب هذا العُرف؛ سوق من المتبقين من عيال وأطفال المغلوب أسارى الى القائد الاعلى او الوالي أو غير ذلك.
وفي مثل هكذا لحظات في تلك السنة، كان أهل الكوفة يرون في عبيد الله بن زياد، الحاكم الشرعي عليهم، بقطع النظر عن الملابسات والخلفيات. ثم لنعلم أن الكوفة آنذاك، كانت تضم عدداً كبيراً من النفوس، فهي ربما كانت تضم اكثر مليون انسان، حسب بعض المصادر، بين طفل وشاب ورجل وامرأة، حتى قيل إن جيش عمر بن سعد الذي واجه الامام الحسين في كربلاء كانت ذيوله في منطقة "النخيلة" بالقرب من الكوفة. وهذا يعني أن شريحة لا بأس بها من المجتمع الكوفي، كان تعرض لعملية تضليل اعلامية كبيرة، كما هو حال المسلمين في سائر الامصار، ومنها الشام طبعاً. وهذا ما جعل الكثير من الناس يرفعون الشعار: "ما لنا والدخول بين السلاطين".
فقد تحركت الماكنة الاعلامية الأموية لمواجهة الموقف المدوّي للإمام الحسين، برفض البيعة ليزيد، وبدأت الترويج بين الناس بأن القضية إنما تعود الى "تنافس على الحكم بين أولاد معاوية وأولاد علي..."! وهذا هو ايضاً من اسباب خذلان اهل الكوفة لمسلم ابن عقيل، عندما استخدم الأمويون أسلوب القوة والقسوة، لتذكير الناس بالعهد الجاهلي، وأن الحكم للأقوى.
تفنيد فكرة "الحكم للأقوى"
وعليه من الناحية المبدأية؛ كل من يخرج على حاكم زمانه "خليفته" يعد خارجاً عن الاسلام، او انه "شقّ عصى المسلمين"! وغيرها من المفردات التي ساقها الاعلام الأموي. من هنا نفهم معنى الدور الإعلامي الذي قامت به كلٌ من العقيلة زينب، والامام السجاد، عليهما السلام، وهما في حالة السبي، وقد قيدوا بالحبال والسلاسل. ونقطع بأن التاريخ أخفى الكثير من الحقائق عن تلك المرحلة بالذات، وكيف تعامل الجيش الأموي مع الأسرة النبوية بعد واقعة الطف.
وفي التاريخ، جاء أن النسوة اللاتي كنّ يشرفن من السطوح على موكب السبايا، وبعد ان يكشف لهن الحقيقة، ومن يكون المقيدين والأسرى، يهرعن لإعطاء الأردية والحجاب وما يستر النساء والفتيات في القافلة، وكنّ إما من عائلة الامام الحسين، واهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، او من نساء الاصحاب، بين إرملة وأم ثكلى وايتام. فكانت عقيلة بني هاشم، تهتف أمام الكوفيين، وكذلك يفعل الامام السجاد، بأنهم من أهل بيت النبوة، وليسوا من أسرى حرب من أقوام بعيدة او من شذاذ الآفاق أو من "الترك" أو "الديلم"، كما يعبر التاريخ. والمؤرخون ينقلون الموقف الحائر الذي سقط فيه أهل الكوفة، وفي وقت لاحق؛ اهل الشام، وكيف أنهم خدعوا في هوية الجهة التي تقاتل أمير الكوفة المعين من "الخليفة".
وهناك الكثير من المواقف التي يرويها المؤرخون عن الجهد الاعلامي الجبّار الذي قامت به العقيلة زينب والامام السجاد، في تلك الظروف التي يعجز وصفها بالمرة، وربما تكون قريبة الى الذهن، لمن عاش فترات الاعتقال والتحقيق والتعذيب في سجون الطغاة. منها موقفه، عليه السلام، أمام ابن زياد، وقد استفهم الاخير، بوجود "علي بن الحسين" على قيد الحياة، وقد أوضح الامام بأن "كان لي أخ يسمى علي، قتله الناس"، فقفز ابن زياد فوراً لاستدراك الموقف، وقال: "بل قتله الله..."! وربما هو بذلك يقتبس الدرس من معاوية، ملهم السياسة الأموية، عندما أشاع للناس بأن الله كان وراء موت الامام علي، و أيضاً مالك الأشتر، ونقل التاريخ عنه بأن "لله جنود من عسل..."! وغير ذلك.
وعندما أراد ابن زياد استفزاز العقيلة زينب بأن "كيف رأيت صنع الله بك وبأخيك...."، وهو يعيد نفس النبرة، متشبثاً بما تلقنه من أسلافه، فكان الجواب الصاعق: "ما رأيت إلا جميلا..."!، إن الخطب اللاهبة التي ألقتها العقيلة في الكوفة، تمثل بحق شريط وثائقي يكشف كل الحقائق بالأدلة والبراهين، ويبين لأهل الكوفة وللمسلمين كافة، أنهم سقطوا في خدعة تاريخية منكرة، وانزلقوا في إثم ما بعده إثم، كما بينت حقيقة من يحكمونهم. كذلك فعل الامام السجاد في الشام وفي عقر دار يزيد، وأمام جمع من الوفود الاجنبية التي جاءت لتشارك احتفال الاخير بالنصر، واعداد هائلة من الناس الذي كانوا في درجة دنيا من الوعي، عما كان عليه اهل الكوفة. حتى أن الحاضرين عندما سمعوا خطبة الامام، عليه السلام، على تلك "الأعواد" وابن من يكون، ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، حتى خاف يزيد انقلاب الأمر عليه، زعزعة ثقة الناس به، فعجّل بترحيل قافلة السبايا الى المدينة.
الانتصار اعلامياً للقيم والمبادئ
عندما يجري الحديث عن مفهوم "الاعلام الحسيني" يتبادر الى الذهن، القيام بنشاطات اعلامية مختلفة لإحياء الفاجعة الأليمة التي تعرض لها الامام الحسين، عليه السلام، واهل بيته في كربلاء، وما جرى بعد ذلك، بما يفهم من القضية، الجانب العاطفي وإثارة المشاعر الانسانية، حيث تكون المناصرة للمظلوم وإدانة الظالم والقاتل... وهذا طبعاً جزءاً مهماً من القضية، وليس كلها. وبما أننا نؤمن – وشريحة واسعة من المؤمنين- بأن قضية الامام الحسين، عليه السلام، لم تنطلق من دوافع شخصية او سياسية او خلاف على الحكم وغير ذلك، إنما هي قضية رسالية بامتياز، فالدين بأكمله هو الذي وقف أمام الضلال والانحراف والطغيان يوم العاشر من المحرم. هذا الوقوف والتصدّي الذي تجسّد في شخص الامام الحسين، عليه السلام، كان أمام حالة التحلل من الدين، وايضاً السكوت على الانحراف والتزييف الذي طال هذا الدين الذي جاء به النبي الأكرم، وتحمّل ما تحمّل لتبليغ الرسالة، وضحى من أجله رجال عظام، من امثال؛ علي بن أبي طالب، عليه السلام، واصحاب مكرمون.
نعم؛ "الاعلام الحسيني" لإحياء الذكرى الأليمة استدرار الدموع وخلق أجواء الحزن والأسى والحثّ على ممارسة الشعائر الحسينية لما فيها من الفوائد الكبيرة على النفوس والافكار. والى جانب كل هذا، فان المعركة التي دارت في كربلاء، كانت بالحقيقة خلاصة ونتاج منظومة ثقافية انحرفت بعيداً عن الرسالة السماوية وقيما السمحاء، فاصبحت السرقة من خيام الإمام، أمراً مشروعاً ومبرراً، وخذلان شخص مثل مسلم ابن عقيل، أمراً لابد منه، بل وخذلان الامام الحسين، عليه السلام، خوفاً من خسارة المزارع والبيوت والاموال وخوفاً على النفس من الموت، امراً طبيعياً، فالانسان يخشى على حياته...! علماً أن الموت، كان يحيط بأهل الكوفة آنذاك، وهو محيط بالانسان في كل زمان ومكان. لكن المشكلة، تبقى كيفية اختيار الانسان كيفية استقباله للموت؟.
مثال ذلك؛ موقف الامام الحسين، عليه السلام، مع الحُر، وسقيه الماء في تلك الحاثة التاريخية المعروفة، وكان مع الحر حوالي ألف فارس، كلهم شربوا وارتووا من ماء الامام، وهم أنفسهم شاركوا في قتله بعد ساعات قلائل. بيد أن الامام، عليه السلام، بهذه الوسيلة الاعلامية، بين لهذه الكتيبة العسكرية هوية الانسان المؤمن، وكيف يجب أن يكون، قبل ان يتحدث اليهم عن القتال والصراع، ومن يكون الحق معه؟ ومن الأقوى...؟ إنما المهم في كيف يجب ان يكون الانسان، كل هذا تمخّض عن تغيير موقف الحر. وكذا موقفه، عليه السلام، من تجمهّر أهل الكوفة، واجتماع كلمتهم على قتاله، بأن ذرف الدموع على أنه سيكون السبب في انزلاق هذا الجمع الى النار...! وهذا بحد ذاته، يعدّ مشهداً اعلامياً تمخّض هو الآخر، مع مقاطع عديدة من خطابات عاصفة تكشف عن حقائق جمّة، عن التحاق عدد من جند ابن سعد الى معسكر الإمام الحسين، عليه السلام، قبل اندلاع الحرب. وهكذا كانت أهداف الاصحاب الذين تقدموا في بادئ الامر بين يدي الإمام، عليه السلام، لنصح القوم وتحذيرهم من المآل الخطير الذي يتجهون اليه.
وبما أننا نخوض حالياً، صراعاً مريراً مع قوى الضلال والانحراف في الامة، فان علينا ان نحدد المفاهيم والقيم التي انتصرت في كربلاء، وارتقت باصحابها الى العلا، كما نحدد المفاهيم التي كانت سبب الخذلان وسقوط اصحابها الى المهاوي والى حيث الخزي في التاريخ وفي الدينا والآخرة. فمن الجدير تسليط الضوء على المفاهيم الايجابية في حياتنا، والتي انتشرت بين معسكر الامام الحسين، واستمرت معه، وما تزال هي قائمة، مثل البصيرة والوعي والشجاعة عند الشباب، والصبر وقوة القلب لدى النساء، في معترك الصراع بين الحق والباطل، وبين الانحراف والطريق القويم. وبين العنف والقسوة والغلظة، وبين الرحمة والشفقة. وبين الوفاء وبين النقض بالعهد، وهكذا سائر المفاهيم والقيم السامية التي انتصرت باصحابها في كربلاء، وعلى "الاعلام الحسيني" الانتصار لها أمام العالم، ليس فقط في شهري محرم وصفر، وإنما في سائر ايام السنة، وإعطاء مصداقية حقيقية للمقولة المشهورة بأن "عاشوراء، يوم انتصار الدم على السيف". وأن نهضة الحسين، انتصار للانسانية، وليس للحكم والسلطة والنفوذ. ففي ظل هذه المواجهة المحتدمة مع قوى "الارهاب" ومن يقف ورائها، يجب أن يُستقى كل شيء من الحسين ونهضته، من أبسط حركة للطفل الصغير والشاب، وحتى تصرفات المرأة والزوجة، وحتى الرجل الرشيد ومواقفه وطريقة تفكيره، والتعامل مع العدو، وغير ذلك، حتى نكون على خط الانتصار الذي تسير عليه هذه النهضة مع التاريخ.
اضف تعليق