القضية لا تنحصر في أيام معدودة من السنة، فالقضية الحسينية أبعد وأكبر من الشعائر الخاصة بالزمان والمكان، بقدر ما هي منهج متكامل مع أدوات واضحة لنشر الوعي وصنع الثقافة البناءة لأفراد الأمة، فقد جسّد الأمام الحسين كل قيم الفضيلة والعدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية...

في ساحة المواجهة بين معسكر الامام الحسين، ومعسكر النظام الأموي بقيادة عمر بن سعد، لحظات فاصلة وحاسمة لن تتكرر ابداً بين خطاب الوعي والوعظ لأهل الكوفة علّهم يرتدعون عما احتشدوا من أجله، والملحمة النهائية بعد إلقاء الحجج الدامغة، كما قال مسلم بن عوسجة في ذلك المشهد التاريخي الاستثنائي: "نحن وإياكم إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة".

حتى في الساعات الأخيرة قبل الملحمة كان الامام الحسين، عليه السلام، يحرص على استقلالية القرار وحرية الإرادة عند أصحابه المتبقين، وأن لا يقوموا بعمل لا يؤمنون به، او يخشون عواقبه وآثاره على عوائلهم، بل وحتى أثناء الملحمة الدامية ذاتها، لم يشأ الامام خدش مشاعر الأم بولدها الوحيد بعد استشهاد ابيه "في الحملة الأولى ولعل أمه تكره خروجه". 

ولكن! بعد استشهاد الامام الحسين، وانتهاء المأساة المروعة على أهل بيت رسول الله، فلا مجال للزعل وجبر الخواطر بعد انكسار خاطر الامام زين العابدين، وعمّته وأهل بيته في مسيرة السبي المؤلمة، لأن كل الحقائق باتت واضحة بجلاء الشمس، حتى المتخلفين عن معسكر الامام الحسين، مثل عبيد الله بن الحر الجعفي وأشباهه، ممن تنصلوا عن مسؤولية الدفاع عن الرسالة السماوية، رافق الندم والحسرة حياتهم كلها. 

هذا في تلك الفترة من الزمن، فما بالنا ونحن نعيش في هذه المرحلة المزحومة بالتطورات الهائلة في وسائل العيش وفي فكر الانسان وثقافته ايضاً، فلم تبق زاوية لم يضيئها المفكرون والمؤرخون حول النهضة الحسينية؛ سواءً في ملحمة عاشوراء، أو في مسيرة السبي، والدور التبليغي للإمام زين العابدين وعمته زينب، عليهما السلام، إنما بقيت بعض الفقرات تحوم حولها التفسيرات والتأويلات، وهي الأخرى لن تخرج عن الإطار العام لأهداف وقيم هذه النهضة، ولعل سطوعها وتكاملها الديني والإنساني هو الذي جعلها خالدة تمضي مثل نهر هادر تتخلل الأجيال والزمن الى يوم القيامة. 

فاذا كانت ثمة تحفظات في الحديث عن هذا الموضوع او ذاك، في هذا المقام او ذاك، فان الحديث عن قيم ومبادئ النهضة الحسينية لا حدّ له ولا حدود مهما كانت المبررات للتأجيل مراعاة لبعض الاذواق او الرؤى الخاصة. 

وعندما نجد أسماء خالدة في تاريخنا المعاصر ارتبطت بالقضية الحسينية، فان الفضل في تلك الشجاعة بقول الحق أمام القرار الجائر والوضع الفاسد، تأسّياً بالإمام الحسين، عليه السلام، و تمثّلاً بتضحياته العظيمة، ومن تلك الأسماء اللامعة؛ الشهيد الشيخ عبد الزهراء الكعبي، والشاعر الحسيني الشاب؛ الشهيد حيدر الرماحي، الذي أراني ملزماً بإسداء الشكر لكل من عمل على نشر جانب من بطولاته في مواجهة السلطة البعثية الغاشمة على صفحات التواصل الاجتماعي، مما عرّف الشباب والناس على المواقف المشرّفة والحسينية لهذا الشاعر المبدع، وكيف فضّل أن يقذف في "ثرامة اللحم" على أن يكتب كلمة مديح واحدة للطاغية صدام، وهو ما تسابق عليه الكثير من شعراء المال الحرام منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي. 

القضية لا تنحصر في أيام معدودة من السنة، فالقضية الحسينية أبعد وأكبر من الشعائر الخاصة بالزمان والمكان، بقدر ما هي منهج متكامل مع أدوات واضحة لنشر الوعي وصنع الثقافة البناءة لأفراد الأمة، فقد جسّد الأمام الحسين كل قيم الفضيلة والعدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وإثارتها والمطالبة بها في أي زمان ومكان يُعد مطلباً انسانياً قبل ان يكون نشاطاً دينياً.

إن نداء الإمام الحسين، عليه السلام، بـ "هيهات من الذلة"، لم يكن أمام يزيد بن معاوية، او عبيد الله بن زياد فقط، وإنما لجميع مظاهر الفساد والانحراف التي تريد دائماً فرض الامر الواقع والفاسد على الناس. 

اضف تعليق