في عاشوراء ، انتصر الإسلام الصحيح على الإسلام المزيّف، وانتصر منطق العدل والحرية والفضيلة على همجية العنف والطغيان والرذيلة، وانتصر دم المظلوم على سيف الظالم، وإن إحياء ذكرى كربلاء إنما هو إحياء لمبادئ الإسلام وقيم الإنسان، وهي أيضاً، انتصار لقضية كل مظلوم ومقهور ومحروم الى آخر هذه الدنيا.
لقد جسّد الإمام الحسين (عليه السلام) أروع معاني الإباء والتحدي برفضه بيعة يزيد، فكانت نهضته وما زالت وستبقى (عِبرة وعَبرة) للأجيال، وقد أراد الإمام سيد الشهداء بكربلاء أن يخلق في الأمة حالة مستدامة من التفاعل بين الإسلام (عقيدة وفكراً) وبين الناس (عاطفة وسلوكاً).
وقد تجسد ذلك في الشعائر الحسينية التي يحييها أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، في شهري محرم وصفر، بل على مدار السنة، التي هي من أبرز عوامل إظهار الحب للحسين (عليه السلام) والولاء لمنهجه، وهي أيضاً من الوفاء لتلك التضحيات العظيمة والمواقف النبيلة لسيد الشهداء ومن معه، الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل حفظ الدين وحماية مبادئه التي أراد الأمويون تشويهها للقضاء عليها.
ومن ثمار إقامة الشعائر الحسينية أنها تجمع الناس –من شتى بقاع العالم- على مائدة التقوى والخير والبر والانتصار للمظلوم وبغض الظلم، وتجمعهم على مواساة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).
والشعائر الحسينية مدرسة إسلامية –إنسانية فيها منافع (معنوية ومادية) للناس-بمختلف مستوياتهم العلمية- فيتعلمون فيها العقائد والتفسير والتاريخ والأخلاق، ويجري من خلالها الاطلاع على شؤون المجتمع وأحداث الساعة.
وفي الشعائر تبيين للأهداف التي استشهد الحسين (عليه السلام) من أجلها، ومنها إحياء دين جده (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفظ كرامة الإنسان. فضلاً عن أنها تتضمن نشاطات إنسانية تصب في مساعدة الفقراء والضعفاء وإعانتهم، من خلال ما ينفق فيها من أموال، لسد حاجة المحتاجين، وإطعام الناس.
يقول الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي(قده): "لابد لنا من الاعتقاد بأن إقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) والشعائر الحسينية، إضافة إلى الأجر والثواب الجزيل الذي فيه، فإنها مفيدة لنا في إصلاح دنيانا وآخرتنا".
لذا، فإن الذين يقيمون الشعائر الحسينية، هم من الذين آمنوا وزادهم الله هدى وتوفيقاً، فاختارهم لخدمة عظيمة، وهل هناك أعظم من خدمة الإسلام والإنسان، يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): "هناك كلمة وردت في حديث صحيح، مذكور في الكتب الأربعة، عن مولانا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي: (اختار).. وهذه الكلمة هي للشيعة الذين يبلّغون شعائر أهل البيت، وهي كلمة استعملها أمير المؤمنين (عليه السلام) للأنبياء ولمولانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيّدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) وللأئمة (عليهم السلام). وهذا يعني أنه: كما أن الله تعالى اختار الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، كذلك اختار شيعة لتبليغ شعائر أهل البيت (عليهم السلام). فاعلموا أيها المؤمنون وكل من يقوم بتبليغ الشعائر الحسينية المقدّسة، إن الله تعالى قد اختاركم، وجعلكم في عداد الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)".
وقد تعرضت الشعائر الحسينية –على مر الأزمنة– الى القمع على يد الطغاة والعتاة والمنحرفين، لأن فيها ديمومة الجهاد ضد الظالمين والفاسدين، وابقائه متوثباً في النفوس لئلا تصاب بالخمول والهوان، فهذه الشعائر المباركة تستحضر قيم البطولة والفداء والإيثار بأنبل صورها، وهو ما يجعل الأمة حاضرة ومتفاعلة لتغيير واقعها المأزوم.
وهناك من يشكك في جواز بعض الشعائر الحسينية، فبعض يرى عدم جواز البكاء على الميت، وكأنه لم يقرأ القرآن الكريم ليعرف بالبكاء الطويل للنبي يعقوب (عليه السلام) على ابنه يوسف (عليه السلام) حتى ابيضت عيناه، ولم يذم الله تعالى ذلك البكاء.
وقد بكى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحسين (عليه السلام)؟ فقد ورد عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت يا رسول الله رأيت حلماً منكراً الليلة. قال: وما هو؟ قالت: إنه شديد، قال: ما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، فقال: (رأيت خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً يكون في حجرك). فولدت فاطمة (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) فكان في حجري، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخلت يوماً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعه في حجره ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهرقان من الدموع، قالت فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبريل (عليه السلام) فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا (يعني الحسين)، فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وآتاني بتربة حمراء).
وهنالك من يقول بحرمة شعيرة التطبير (أو غيرها)، علماً بأنه لا يوجد أي نص يدل على حرمتها، بل هو مباح حسب أصالة الإباحة العقلية، يقول المرجع الشيرازي: هناك شعيرة من شعائر الإمام الحسين (عليه السلام)، يقوم بها الملايين من الناس، لم أسمع خلال سنين عمري، أن واحداً من المقيمين لها مات بسببها، فحتى في موسم الحج يموت بعض الحجّاج، وهذا أمر بديهي وطبيعي، وكذلك قد يموت بعض اللاطمين في عزاء اللطم، ولكن هذا لم يحصل في تلك الشعيرة أبداً. إنّي عاصرت المرحوم كاشف الغطاء، وقد كتب في إحدى كتبه: "إنني تابعت تلك الشعيرة خلال ستين سنة، فلم أسمع بأن واحداً من المقيمين بها قد مات بسببها". وهذه معجزة.
ويقول (دام ظله): إنّ عاشوراء لا تنتهي، فالله تعالى أراد أن تبقى عاشوراء وتنتشر وتتوسّع وتكبر، وهذا ما يمكن مشاهدته في مختلف بلاد العالم. فسنوياً تؤسس المئات من الحسينيات والمواكب والمجالس الحسينية في المئات من المدن والقرى. وهذه من مصاديق (ولا يزداد أمره إلاّ علوّاً) الذي بشّر به النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
اضف تعليق