اعتاد الشيعة العراقيون الاستنفار لإحياء ذكرى عاشوراء ولمسوا مردودات هذا الاحياء وعطاءاته، وتبدو حاجتهم اكبر لاستثمار هذه المواسم ثقافيا وروحيا للحفاظ على الوحدة الاجتماعية وتأطير حركتهم ووعيهم نحو بناء بلادهم وتطويرها، يمكن بسهولة البناء على أخلاقيات وقيم الانتماء والولاء للحسين ع في اشاعة ثقافة البناء والتنمية الشاملة...

ينفرد المسلمون الشيعة بتعدد مواسمهم المذهبية الدينية، أطول وأهم هذه المواسم قاطبة هو موسم عاشوراء، الذي يتميز باحياء ذكرى استشهاد سبط الرسول محمد (ص)، الامام الحسين (ع)، ويمتد لشهرين متتالين ويشهد ذروة الانفعال الديني والطقسي. لقد ساهمت الاستعادة السنوية للخطاب الحسيني وما يرافقه من أعمال تطوعية ونشاطات اجتماعية في تشكيل هوية قطاع كبير من الناس وصار الطقس الحسيني وخطابه ومتعلقاته موروثا يقف بالضد منه فريقان، فريق السلطات التي تخشى منه التحريض وتشكيل عقل ناقم معارض رافض للسياسات السلطوية الاستبدادية، ولفساد أهل الحكم، والفريق الثاني، كل من يعارض اقامة هذه التجمعات لأسباب دينية، ويفسر هذه الطقوس بانها شكل من اشكال التعبئة المذهبية الهوياتية، وقد يغالي في الفهم فيحاكم هذه الطقوس محاكمة كلامية عقدية فقهية ويخرج بنتيجة رافضة لها جملة وتفصيلا، متهما من يقوم بذلك بالبدع والاهواء واللاعقلانية.  

تبلورت هذه الرؤى على مدى عصور وصارت علامة على انقسام مذهبي طائفي بمحركات سياسية أكثر منه دينية، ولذلك وجدنا السلطات ومن يوافقها ويلائمها ويتخادم معها، يقف موقفا حادا من مواسم عاشوراء ماضيا وحاضرا، بل يخشى منها اشد الخشية ويستعمل مالديه من ادوات سلطوية لمنعها أو الحد منها بذريعة حماية الاستقرار والامن والوحدة الوطنية. 

الخشية من مواسم عاشوراء تعود في تقديري إلى ما استقر عليه خطاب المنابر من دعوة إلى الثورة والرفض والخروج ومواجهة الطواغيت والحكام، فيما الخطاب الحسيني لا يمكن اختزاله بالثورة وحدها رغم رمزية الحدث الحسيني القانية، فثمة ارتباط بين هذا الاختزال وبين الظروف الاجتماعية - السياسية المزرية الداعية إلى ذلك والمحركة له. 

لا أعرف تحديدا متى دخل مصطلح ثورة على الحدث الكربلائي التاريخي، لكن هناك توصيفات عديدة متزامنة، فتارة يقال نهضة الحسين، وتارة يتحدث الخطاب الديني عن (خروج) الحسين، كون الفقه الاسلامي وضع شروطا مشددة للخروج على الحكام، وتباينت الاراء الفقهية والكلامية كثيرا في هذا الموضوع، وذهبت اتجاهات متطرفة إلى معاداة هذا المنهج فصارت خطابا معارضا بشدة لكل ما يمت إلى احياء الحدث الحسيني بصلة، ووقف الجمهور الاسلامي العريض موقفا مترددا مضطربا في موقفه من ذكرى عاشوراء، بين من يستعيدها رمزيا وانسانيا اذا احتاج إلى الاستمداد من التاريخ والتراث إلى شرعية دينية لموقفه، ويصمت عنها اذا لم يكن بحاجة إلى ذلك، المسلمون الشيعة توحدوا في احياء الحدث الحسيني وصار هذا الاحياء رمزية مذهبية واجتماعية وجزءا سيكولوجيا من الذات الفردية والاجتماعية الشيعة، بل هوية أو معلم بارز من معالم تلك الهوية وارتبط ذلك الاحياء لدى فريق بالتركيز على خطاب (الثورة) لتحفيز افكار ومشاعر التضحية والمعارضة والجهاد والرفض، واكتفى اخرون بالاحياء لاسباب دينية عاطفية فحسب.

الاتجاه الخافت بين جميع هذه الاتجاهات هو الاتجاه الاصلاحي العملي، فخروج الحسين علله وسببه الحسين نفسه، بانه لـ(طلب الاصلاح) وليس خصومة على حكم، أو طمعا أو رغبة في الهيمنة وامتلاك السلطة وصولجانها وابهتها وامتيازاتها، الاصلاح هو الدافع لمواجهة انحرافات دينية وسياسية واجتماعية، وسيبقى الاصلاح حاجة دائمة للمجتمعات، تبدأ من الاصلاح الديني وتمر بالاصلاح السياسي والثقافي والاقتصادي، عندما يستنفد مجتمع من المجتمعات الحاجة إلى الثورة أو العنف للتغيير السياسي أو لتحرير ذاته من الاحتلالات ومن المعاملة غير العادلة، يبحث عن سبل سلمية للبناء واصلاح شؤونه، وبامكانه الاستمداد من رسالة الاصلاح التي نادى بها الحسين، ويستطيع كذلك اكتشاف معان سامية من الاصلاح لاتقتصر على النهضة المسلحة أو الخروج الاستشهادي أو التضحية بالنفس، بل بنكران الذات من أجل هدف سياسي اسمى، بالدفاع عن حقوق الناس واشاعة العدل وتحقيق المساواة ومكافحة الفساد وتنمية المجتمع والاقتصاد. يمكن استثمار المنابر الصادحة والاستعداد النفسي لدى المستمعين الزاحفين لحضور مجالس الاحياء لتهذيب السلوك العملي واشاعة ثقافة العمل والانتاج والارتقاء بالواقع المتخلف واصلاحه وبذر بذور المشروع الثقافي الداعي إلى التمسك بالفضائل والقيم الانسانية لتحسين حياة الناس وتقليل معاناتهم. 

اعتاد الشيعة العراقيون الاستنفار لإحياء ذكرى عاشوراء ولمسوا مردودات هذا الاحياء وعطاءاته، وتبدو حاجتهم اكبر لاستثمار هذه المواسم ثقافيا وروحيا للحفاظ على الوحدة الاجتماعية وتأطير حركتهم ووعيهم نحو بناء بلادهم وتطويرها. 

يمكن بسهولة البناء على أخلاقيات وقيم الانتماء والولاء للحسين ع في اشاعة ثقافة البناء والتنمية الشاملة حيث يجود المجتمع عطاء واستعدادا بلا حدود. ذلك كله مرهون برؤية وحامل وموجه يبتكر اساليب جذب للموارد البشرية الهائلة، ويمكن أن تساهم الدولة إذا توفرت على مشروع ثقافي عملي.

اضف تعليق