تنشأ القيم المؤسسة في المنطقة المتكونة بين النص المقدس وتطبيقاته العملية، وهي القناة الواصلة بين النص والواقع. وتشغل الامامة في عقيدتنا وفي ثقافتنا الدينية الاسلامية تلك المنطقة على حافة النص المقدس، فالإمامة من جهة هي امتداد النبوة ومن جهة اخرى في تواصل امتدادها هي التجسيد الحرفي والعيني للنص الديني الاول والمؤسس وهو القرآن الكريم.
وهنا نجد تفسيراً ترابطياً بين قول الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في وصف نفسه المقدسة بأنه القرآن الناطق وبين موقع الامامة في اشغال المنطقة المتكونة بين النص المقدس وتطبيقاته العملية، وهي المنطقة التي تنشأ فيها وتنمو بها القيم المؤسسة الاولى في نظامنا الديني والاجتماعي ومن ثم القيمي.
وقد ارتهنت تلك القيم المؤسِسة الاولى بمواقف رجال العصر الاول من اهل البيت في الاسلام، بل امتد الى مواقف نساء استثنائيات في هذا العصر من اهل هذا البيت المعظم في نفوس كل المسلمين.
ونستطيع ان نحدد نشأة قيمة الحرية كقيمة عملية وانسانية سامية وليس كقيمة نظرية كلامية مجردة، بدأت مع القول بالقضاء والقدر في تاريخنا الاسلامي ومع الصعوبة البحثية الدائمة في تحديد نشأة القيم تاريخيا، لكننا نستطيع تحديد بدايتها العملية في العقد الاول من النصف الثاني من القرن الاول الهجري، وتحديداً تاريخياً اكثر وضوحاً مع وقفة الحق وموقف الرفض الذي ابداه الامام الحسين (عليه السلام) في عاشر محرم من عام 61 هجرية امام نظام مستبد جائر قد اعلن منذ تسلمه عنوة مقاليد السلطة في الاسلام، ان الحرية لا محل لها في نظام حكمه واطار هويته السياسية والقبلية، فكانت البيعة لا تتم له على اساس طواعية الرضا بحكمه وخلافته، وهو مفهوم البيعة الاسلامي، ولكن على اساس ان الناس خول له وعبيد.
ويسري هذا الحكم المنافي للحرية كقيمة عليا في ابنائهم واعقابهم وهو مضمون بيعة اهل المدينة وبأمر منه الى طاغية دنس مدنس وهو يزيد السوء وبقية السيئة الجاهلية في عصر الاسلام.
وكانت اللحظة الصارمة والتاريخية في تأسيس قيمة الحرية كقيمة عليا تفوق كل مركبات الحياة وعناصرها هي قولة رائد الحرية في تاريخنا ابي عبد الله الحسين (ع) وقد رددتها فيافي كربلاء وابلغتها كل ذي سمع (الا وان الدعي ابن الدعي قد خيرنا بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك وحجورا طابت وارحاما طهرت).
وكان امراً غير معهود في ثقافة العرب الجاهلية وثقافة المسلمين في عصر الاسلام، ان يقتل المرء دون حريته، اذ لم تحدثنا وقائع التاريخ فيما سبق واقعة الطف عن مواقف كانت تشترى فيها الحرية بأثمان غاليات من الدم وقد تصح بعضها نزراً في الوقائع، لكنها لم ترق الى سلم المبادئ ولم تتخذ شعاراً ودثاراً كما كانت مع ابي عبد الله الحسين (عليه السلام). فقد كان شعاره ودثاره (والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد) وهو شعار يمنحه قدرة التأسيس، فقد كانت طريقة اهل الجاهلية واهل الاسلام في لحظة تراجع القوة وهزيمة العسكر، الرضا بالأسر ان لم تكن النجاة ومن ثم الفداء او القتل صبراً.
لكن ابا عبد الله سنها سنة واشترعها نهجاً، ان الحرية ثمنها الدماء، واي دماء، وليس الرضا او الفداء، وقد استشعر مصعب بن الزبير قوة هذا التأسيس الجديد في حياة العرب والمسلمين حين قال وهو يواجه عدوه في حربه وقد انقطعت به سبل النصر: (وهل ترك الحسين لابن حرة عذراً).
وان يميز المرء الحرّ بين السلّة من سل السيوف ويبن الذلة، فلا محيص له من السلة، وهيهات من نفوس تأبّت بإباء الله وربت في حجور طابت ونمت في ارحام طهرت ان ترضى بالذلة.
وحين يكشف الامام الحسين (عليه السلام) عن عمق الرفض، فإنما يكشف عن نماء مفهوم الحرية في اصله وفي جذره، وهو اصل وجذر انغرس بعمق في المنطقة المقدسة المتكونة بين النص الديني الاول او النص المؤسس الاول – القران العظيم- وبين تطبيقاته العملية في الحياة البشرية، وهو انغراس ونماء كفل له ان يكون مؤسساً لجملة من القيم المؤسسة في ثقافة دينية وعقيدية تصدر عن تماس مباشر بالنص الاول، تصطفيه عيون الحقيقة عيون آل محمد (صلوات الله عليهم ) وهي تشهد وقد اغرورقت بالدموع مشهداً خالداً في يوم عاشوراء حيث كانت تزف بشائر الشهادة الى الملأ الاعلى وتؤسس فيه قيمة الحرية كقيمة عليا.
اضف تعليق