زيارة الأربعين في مقاصدها العميقة تصنع جسدا اجتماعيا واحدا، حيث تسمو قيم التكافل والتراحم والتعاون والتعاطف فيما بين الناس، ويصبح المجتمع كله لون واحد، وقلب واحد ومجتمع واحد، وهذه بالنتيجة تعني التكامل في مراتب متصاعدة، فكلما يزداد وعي الإنسان في التعاون والتكامل مع الآخرين، تكاملا ماديا ومعنويا وفكريا...
تعد زيارة الأربعين تجمّعا كبيرا وهذا التجمع يلتقي فيه ملايين الناس من كافة دول العالم، من كافة الجنسيات، ومن جميع أنواع الناس، وهو تعبير عن ذلك الترابط الكبير الذي تحدثه هذه الزيارة فيما بين مختلف الناس بما يؤدي الى توثيق الارتباط المعنوي.
وفي مقطع من زيارة الأربعين المخصوصة نقرأ: (وَأشهَدُ أنّي بِكُم مُؤمِنٌ وَبِإيابِكُم مُوقِنٌ بِشَرايِعِ دِيني وَخَواتِيمِ عَمَلي وَقَلبي لِقَلبِكُم سِلمٌ وَأمري لأمرِكُم مُتَّبِعٌ وَنُصرَتي لَكُم مُعَدَّةٌ حَتّى يأذَنَ اللهُ لَكُم، فَمَعَكُم مَعَكُم لا مَعَ عَدُوِّكُم).
وفي زيارة أخرى أيضا، من زيارات الإمام الحسين عليه السلام وهي الزيارة السادسة، نقرأ: (وَأشهَدُ أنَّكَ وَمَن قُتِلَ مَعَكَ شُهَداءٌ أحياءٌ عِندَ رَبِّكُم تُرزَقُونَ، وَأشهَدُ أنَّ قاتِلَكَ في النَّارِ أدِينُ اللهَ بِالبَراءَةِ مِمَّن قَتَلَكَ وَمِمَّن قاتَلَكَ وَشايَعَ عَلَيكَ وَمِمَّن جَمَعَ عَلَيكَ وَمِمَّن سَمِعَ صَوتَكَ وَلَم يُعِنكَ يا لَيتَني كُنتُ مَعَكُم فَأفُوزَ فَوزاً عَظِيماً).
هذه الزيارات تحث على نصرة الامام الحسين (عليه السلام) "وَنُصرَتي لَكُم مُعَدَّةٌ" وذلك من خلال التعاون على إقامة الحق "وَمِمَّن سَمِعَ صَوتَكَ وَلَم يُعِنكَ"، وقد روي عن رسول الله (الله صلى الله عليه وآله): (إن ابني هذا -يعني الحسين- يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره).
لذلك فإن زيارة الأربعين من مصاديق نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، وتتجلى تلك النصرة بالتعاون على إقامة الحق، فالنصرة لا تكفي لوحدها، بل من التعاون والارتباط الوثيق فيما بين الجميع في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامة الحق ومواجهة الباطل، فقد روي عنه (عليه السلام) في ندائه: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينتهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا الحياة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما).
مفهوم التعاون في زيارة الأربعين
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة 2.
ان الانتصار يعني التعاون على إقامة الحق، وكل ماهو خارج إقامة الحق فهو ليس بتعاون، بل هو تعاون على الإثم والعدوان، ونصرة الإمام الحسين (عليه السلام) تكمن في التعاون على نصرة الحق، فالمفهوم من هذا التجمع من الناس هو ارتباطهم الوثيق للتعاون على مواجهة الباطل، وإلا فإن الإنسان الذي لا يتعاون على إقامة الحق سوف يكون متعاونا على إقامة الباطل، وهذه جدلية مستمرة ازلية وابدية بين الحق والباطل، إذا لم تقم بإقامة الحق تكون مع الباطل، حتى لو لم تكن مع الباطل، فالإنسان الذي سكت عن الباطل ولم ينصر الحق فهو مع الباطل، وإن الذين لم ينصروا الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء وسكتوا وبقوا على الحياد، أولئك نصروا الباطل لأنهم فسحوا المجال وفتحوا الطريق أمام جريمة التجاوز على الإمام الحسين (عليه السلام) وقتله.
لذلك عندما نجتمع اليوم في هذه المناسبة وننتصر للإمام الحسين (عليه السلام) فلابد أن نشهد ونشترك ونتعاون على إقامة الحق، في كل معانيه، الأحكام الشرعية، والقيم والأخلاق والتفاهم وإعانة المظلوم وإنصاف الناس ومواجهة الفساد والظلم، فهذه المفاهيم كلها تأتي في إطار التعاون على إقامة الحق.
ماهو مفهوم التعاون؟
ان التعاون هو من الحاجات الأساسية في التكوين البشري، وفي صفة الإنسان وكيانه وغايته، فالإنسان كائن اجتماعي يعتمد على الآخرين ويحتاجهم ويتكامل معهم لذلك لابد ان يتعاون معهم، فالتعاون هو انضمام فرد مع آخر لتحقيق كيان عضوي مشترك.
المجتمع جسد عضوي مثل جسد الإنسان الذي فيه مجموعة من الأعضاء مثل القلب والرأس والكبد والرئتين والجهاز الهضمي وباقي الأجهزة في الجسم كلها تتعامل وتتكامل مع بعضها البعض وتخلق جسدا واحدا، فإذا اختلّ عضو من هذا الجسد فإن الجسد كله سوف يتعرض للاختلال، وكذلك الأمر مع الجسد الاجتماعي، فالجسد يجب أن يكون متكاملا من جميع الجهات، فإذا اختل جانب منه، وتخلى الفرد عن المجتمع وكان أنانيا وغير متعاون، أصبح هذا الجسد متفككا.
فالمجتمع الفردي الذي يفتقد للعلاقات الاجتماعية ويقوم على المادية المحضة، سوف نلاحظ فيه وجود تفاوت كبير بين الطبقات واختلال عضوي مشوه في تركيبته، فهناك أغنياء جدا وفقراء جدا، وهذا هو معنى الاختلال العضوي في الجسد الاجتماعي.
زيارة الأربعين وإصلاح الجسد الاجتماعي
ولكن زيارة الأربعين في مقاصدها العميقة تصنع جسدا اجتماعيا واحدا، حيث تسمو قيم التكافل والتراحم والتعاون والتعاطف فيما بين الناس، ويصبح المجتمع كله لون واحد، وقلب واحد ومجتمع واحد، وهذه بالنتيجة تعني التكامل في مراتب متصاعدة، فكلما يزداد وعي الإنسان في التعاون والتكامل مع الآخرين، تكاملا ماديا ومعنويا وفكريا وثقافيا وعقائديا، سيصبح الجسد الاجتماعي أقوى وأفضل وأعظم وأكثر صمودا واقوى صحة وأمنا وعافية.
ماهي عناصر التعاون على الخير؟
لكي يمكن فهم التعاون بشكل أعمق لابد من معرفة العناصر التي تجسد مفهوم التعاون كسلوك مشترك راسخ في العمق الثقافي والأخلاقي للمجتمع، يعي عنوان إقامة الحق ويفهم معاني الالتزام بالمسؤوليات الاجتماعية.
أولا: يبدأ التعاون من الإنسان نفسه.
الإنسان المسلم المؤمن حقيقة الذي ينتصر للإمام الحسين (عليه السلام)، لا ينتظر أن يبادر الآخرون، بل هو من يبدأ بالمبادرة الذاتية، فهو يبدأ ويبادر ثم يبادر الآخرون، وهذا هو معنى التعاون، لأن التعاون يعني التخلي عن الذات، ونبذ الأنانية، والخروج من الجسد المادي والرغائب والأهواء المادية، والذوبان في المنهج المعنوي للإسلام ولمنهج أهل البيت (عليهم السلام).
والمبادرة والتعاون في زيارة الأربعين نابع من الإيمان، فكلما كان مستوى إيمان الإنسان أقوى تكون لديه مبادرة ذاتية أكبر، وهذا هو معنى الإسلام، وهو الدافع الذاتي الذي لا ينتظر أن يبادر الآخرون لكي يبدأ بالعمل والمبادرة، أي لاتكون له توقعات من الآخرين يتحرك ويعمل، بل الدافع الذاتي يحركه، إنما يعمل ويبادر ويتعاون لوجه الله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا) الإنسان 9.
هذا ما نلاحظه اليوم من عطاءات خدمة الامام الحسين (عليه السلام) لزواره الكرام، يدفعهم حبهم وولائهم وإيمان بمنهجه (عليه السلام)، حيث يتسابقون فيما بينهم لتقديم كل ما يمكن من خلال مبادرات ذاتية، وهذا هو معنى التعاون والتنافس في الخير وخدمة الآخرين.
ثانيا: الخدمة الطوعية
الخدمة الطوعية من أهم أساليب التطور والبناء، فاليوم تلاحظ بعض المجتمعات تسودها حالة من غمامة الاكتئاب والانعزال، فكل فرد منهم يفكر في نفسه، خصوصا في المجتمعات المادية، ولكن في المجتمعات المعنوية، تحضر قيم إلهية عظيمة، ومنها التخلي عن الذات والخدمة الطوعية وهذا من أعظم ما يتميز به الإنسان.
فقد نقل أحد الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) (قال: سمعته يقول: المؤمنون خدم بعضهم لبعض، قلت: وكيف يكونون خدما بعضهم لبعض؟ قال: يفيد بعضهم بعضا....)، وهذا هو معنى أن يكون الإنسان متعاونا مع الآخرين، من خلال تجسيد معنى الخدمة في زيارة الأربعين.
ثالثا: حسن التواصل مع الآخرين
هذا المفهوم ركز عليه أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا، ومن ضمنه المجتمع الصغير وهو الأسرة، وفي هذا التواصل يوجد ثواب عظيم، والثواب العظيم هو نتيجة لحالة التعاون مع الآخرين، حتى يتفاهم الإنسان ويتواصل ويحسن إلى الآخرين، فالتعاون يعني أن يبذل جهده لكي يتواصل الإنسان من نفسه مع الآخرين.
فعن الرسول (صلى الله عليه وآله): (صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك)، فلابد أن تصل من قطعك حتى لو قاطعك سواء كان من أقرباءك او جيرانك او غيرهم، فعليك أن تبادر وتواصله، حتى لو كان الحق لك وليس معه، وهذه خطوة في بناء التعاون في المجتمع الإسلامي.
واليوم في زيارة الأربعين نلاحظ مفهوم التواصل فيما بين الناس، حيث يجسد العطاء والتضحية الكبيرة بين الناس، فالتواصل يؤدي ليس إلى التعاون فقط، وإنما يؤدي أيضا إلى التراحم، والتكافل، والإنصاف، وبالتالي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي، لذلك هناك تركيز على التعاون والتواصل لمعالجة الأزمات والنزاعات التي تحصل في المجتمع، ولكن الاستقرار الاجتماعي حقا يحتاج الى ضمان التواصل فيما بين الناس.
المجتمعات المنقطعة أو الجماعات المنقطعة، لا يوجد لديهم مناسبات معنوية عظيمة، فهذه مجتمعات متفككة، أما المجتمعات المتماسكة القوية الجيدة المحافظة على نفسها فهي المجتمعات التي يوجد فيها مناسبات عظيمة، هذه الزيارات المخصصة للإمام الحسين (عليه السلام) وزيارات أهل البيت (عليهم السلام)، هي نقطة انطلاقة مهمة في بناء التواصل فيما بين الناس، ولهذا يؤكد الأئمة (عليهم السلام) دائما على أهمية التجمعات والتواصل بين الناس.
إن الإمام (عليه السلام) لا يحتاج إلى الزيارة، ولكن نحن من يحتاج إلى الزيارة لبناء التواصل فيما بيننا وبين الإمام (عليه السلام)، والاستلهام والحصول على المعنويات والمعارف منه، حتى نحسّن حياتنا علاقاتنا مع الآخرين، فعلى سبيل المثال فإن التأكيد الكبير على أهمية صلاة الجماعة لأنها تؤدي دورا جوهريا في التواصل بين الناس وتقرّب القلوب وتجعل التراحم فيما بينهم راسخا، وبالتالي يبقى المجتمع محافظا على الاستقرار والهدوء.
رابعا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).
فمن أهم عناصر نصرة الحق والتعاون على إقامة الحق، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمع الذي لا يعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجتمع ضائع ومفكك يستهلكه الباطل، لأنه غير متعاون، لأن محور التعاون هو إقامة الحق، كما قال الإمام الحسين عليه السلام: (وأني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين)، هذا هو الأمر الأهم الامر بالمعروف هو محور التعاون في مسيرة الحق، وإيقاف حركة الباطل من تدمير العلاقات الاجتماعية.
فإذا لم يكن الإنسان متعاونا ولم يقم بعملية التعاون لإقامة الحق وترك إقامة الحق والتعاون عليه، فسوف يتعاون مع الآخرين على إقامة الباطل، أي يصبح الأمر معكوسا (ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر)، لذلك تنزع من البركات، حين يتسلط الظالمون والطغاة وأهل الفساد والانحراف على المجتمع.
وللبحث تتمة...
اضف تعليق