السير على الاقدام سيتوقف بعد أيام، وتنتهي زيارة الاربعين، وستخلو شوارع كربلاء المقدسة من الزائرين، وتعود كما كنا نراها يومياً باعداد قليلة من المارة والسيارات، ما خلا ساعات معينة من اليوم، بيد أن القلوب الوالهة لن تتوقف عن محبة الامام الحسين، عليه السلام، وتسعى لتعميق هذا الحب الى درجة التماثل مع شخصيته وصفاته وخصاله، عليه السلام...
"مثلي لا يبايع مثله".
الإمام الحسين، عليه السلام
في الطريق الى مرقد الإمام الحسين، عليه السلام، يثور في ذهني سؤال عن الذي فعله الإمام ليلقى هذا التعامل من أهل الكوفة الذين وفدوا اليه في وادي الطف لا ليبايعوه خليفة وإماماً يكون الوسيلة بينهم وبين الله، كما وعدوا وكتبوا، وإنما ليتقربوا الى الله بسفك دمه، وانتهاك حرمة عياله، والتنكّر لقرابته من رسول الله!
منذ بداية الحراك الحسيني، وفي المدينة قالها الامام الحسين بوجه والي المدينة من قبل الأمويين، الوليد من عتبة، بعد أن دعاه لبيعة يزيد فقال: "يزيد شارب الخمر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله"، هذا، وكانت رسائل أهل الكوفة قد وصلت الى الامام الحسين يدعوه للقدوم اليهم، فيما كان ابن زياد بعد في البصرة لم يأته الأمر بالتوجه الى الكوفة، ويحصل ما حصل من الكشف عن حقيقة النفوس.
سواءً وصلت كلمة الامام الحسين هذه الى أسماع الكوفيين، وعرفوا موقفه الحازم والصارم، او لم يصلهم منه شيء، المفترض تطبيق مبدأ العلاقة بين الحبيبين؛ أن يحب كل منهما ما يحب الآخر ويكره ما يكرهه، ومن المعروف أن الحب القلبي سبق قرارهم دعوة الامام بملء إرادتهم، بيد أن هذا كان مجرد افتراض، ولم يكن ثمة التزام بالمبدأ مطلقاً، فقد أعلن أهل الكوفة -آنذاك- فشلهم الذريع والمريع في أن يكونوا مثل الامام الحسين، ونجحوا في أن يكونوا مثل يزيد!
اليوم؛ وبعد مرور ألف وأربعمائة سنة من ذلك الاختبار الفاشل والسقوط المريع، نشهد توافد الملايين من محبي الامام الحسين صوب مرقد الشريف في مدينة كربلاء المقدسة لإحياء شعيرة زيارة الاربعين، ومعظمهم قادمين مشياً على الاقدام لمسافات طويلة، ومن شتى بقاع العالم، يعربون عن حبّهم وولائهم للإمام الحسين، هم؛ ومعهم اصحاب المواكب الخدمية على جانبي الطريق، الجميع يرجو تسجيل اسمه في ديوان الإمام الحسين، وأنه من محبيه ومواليه، لذا نرى اشكال وابداعات لخدمة الزائرين على الطريق، ومقاطع الفيديو المنتشرة تغني عما نقول.
فمن هو الإمام الحسين؟ وماذا يريد؟ وما هي اهدافه ومبادئه؟ واسئلة عديدة عن فلسفة النهضة الحسينية تدور بين اوساطنا تبحث عمن يجيب ليحظى بتحقيق الهدف الأسمى وهو أن يكون "مثل" الامام الحسين، وكما اراد، عليه السلام، فقد أخرج معارضته لبيعة يزيد من إطارها الشخصي، وأنه ابن بنت رسول الله، وصاحب المنزلة الاجتماعية والدينية المعروفة، و وسع نطاق المعارضة ليشمل جميع افراد الأمة على مر الاجيال، الى يوم القيامة، فالقضية مبدأية بامتياز، فمن كانوا مثل الامام الحسين خلال العقود والقرون الماضية، هم الذين زلزلوا عروش الطغاة، وسلبوا راحتهم وتفاؤلهم بمستقبل في قمة السلطة، وهم الذين تحولوا الى فنارات ماتزال تضيء للأجيال الطامحة للحرية والعدل والمساواة.
مبادئ الامام الحسين، لم تكن سياسية، والقضية لم يكن محورها الحكم مطلقاً، فقبله كان أبوه؛ امير المؤمنين، ومن ثم أخوه الحسن، عليهما السلام، على نفس المنهج، إنما القضية؛ قيم، وأحكام، وإيمان، هكذا كان يربي الأئمة المعصومين اتباعهم، فقبل معارضة السلطة والتفكير بالوضع السياسي، يدعونهم للتفكير في وضعهم النفسي والروحي، والنظر في مستوى وعيهم وايمانهم، والسعي الدائم للتكامل.
ولعل هذا يفسّر اهتمام الأئمة، ومن قبلهم؛ جدهم المصطفى، رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالجانب الروحي والأخلاقي قبل الاهتمام بالجانب السياسي، وكيفية ممارسة الحكم، والتوسع للهيمنة على مزيد من البلاد والعباد، والحظوة بالاموال والغنائم، فجهاد النفس أكبر عند رسول الله من جهاد المعركة ضد الكفار، ومن الانتصارات العسكرية والسياسية، فهو جهاد أصغر عنده، صلى الله عليه وآله، كما في الرواية المعروفة، وكتب السيرة والأدعية حافلة بأعمال عبادية وأخلاقية تمثل قاعدة أساس للنفس، تكون منطلقاً لاتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة، وعن وعي كامل، وفي الوقت المناسب.
السير على الاقدام سيتوقف بعد أيام، وتنتهي زيارة الاربعين، وستخلو شوارع كربلاء المقدسة من الزائرين، وتعود كما كنا نراها يومياً باعداد قليلة من المارة والسيارات، ما خلا ساعات معينة من اليوم، بيد أن القلوب الوالهة لن تتوقف عن محبة الامام الحسين، عليه السلام، وتسعى لتعميق هذا الحب الى درجة التماثل مع شخصيته وصفاته وخصاله، عليه السلام، فان كان يحب الصلاة في وقتها، تكون مثله، واذا كان غيوراً على أهله ونسائه، فنكون مثله في حبّه للعفّة والحجاب بالشكل والممارسة، وإن كان حساساً إزاء الظلم والانحراف والفساد بكل أشكاله، سواءً داخل الأسرة الصغيرة، او في الدائرة، وفي المدرسة، وعند السياسي الحاكم، نكون مثله في التصدي لهذا الفساد والانحراف والظلم، ولا نسكت عنه طرفة عين، وهكذا سائر الخصال والفضائل والمكارم.
اضف تعليق