الاحداث التاريخية المتعلقة بالفترة التي تخللت حياة الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وايضاً؛ حياة معاوية، والظروف الاجتماعية والسياسية للأمة، تقدم لنا مشاهد عامة على شكل خطوط عريضة لمواقف، وكلمات، وأعمال ثبتها المؤرخون، بيد أن ثمة خطوط تفصيلية لها كامل المدخلية في خلق تلكم المواقف والأعمال، بل وحتى طريقة التفكير واتخاذ القرار، فمن يريد دراسة واقعة عاشوراء...
الثورات والمنجزات دائماً تكون جميلة بنتائجها وعطاءاتها، و جذابة برموزها المؤثرين في الواقع الاجتماعي والسياسي، ولكن؛ في زحمة الحماس والعاطفة إزاء الأبطال المنتصرين، يغيب عن الواجهة، المخططون والمنظرون وبناة القواعد الأساسية، فهم من بذروا روح التغيير والإصلاح في النفوس بكلماتهم وكتاباتهم لسنين عديدة، فلا يلتفت اليهم أحد، لأن الناس حينها، مشغولون بحياتهم الراهنة مهما كانت وطأة الديكتاتورية والفساد والاضطهاد، فلا يصدقون تأثير موقف ما، او كلمة تقال، على الوضع العام، لاسيما اذا كان الحاكم يمتلك الاموال، والاعلام، والشرعية.
قُدّر للأمة أن يكون لها ثائران من أروع من شهده التاريخ، وقد كشف عن هويتهما للأمة، جدهما المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، مؤكداً التلازم في المهمة الرسالية، فهما يؤديان دوراً واحداً مشتركاً في ظروف و وسائل مختلفة، وهي إشعال نار الثورة من أعماق النفوس.
بذور عاشوراء
الاحداث التاريخية المتعلقة بالفترة التي تخللت حياة الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وايضاً؛ حياة معاوية، والظروف الاجتماعية والسياسية للأمة، تقدم لنا مشاهد عامة على شكل خطوط عريضة لمواقف، وكلمات، وأعمال ثبتها المؤرخون، بيد أن ثمة خطوط تفصيلية لها كامل المدخلية في خلق تلكم المواقف والأعمال، بل وحتى طريقة التفكير واتخاذ القرار، فمن يريد دراسة واقعة عاشوراء، عليه العودة الى الطبيعة النفسية الخاصة لأهل الكوفة، كونها حامية عسكرية، او قاعدة ومنطلق لتحركات عسكرية للجيش الاسلامي باتجاه الشرق، أكثر مما تحمل صفات المدنية والحتضّر، مثل المدينة المنورة، او الشام، او مصر، او اليمن، لذا فان الحالة العسكرتارية –إن جاز التعبير- هي التي كانت تغلب على الأمزجة، والسلوك، وحتى جانب العقيدة والأخلاق، ولذا فان صفات مثل؛ الانتهازية، والكذب، الخيانة، لا تتشكل في نفس أي انسان إلا بتوفر عوامل نفسية ممزوجة بظروف اجتماعية وسياسية خاصة، نفس الشيء ينطبق على صفات مثل؛ الوفاء، والتضحية، والصدق، والأمانة، لا ترافق أي انسان يطوي مراحل حياته وهو غير مهتم لكوامن نفسه، فمن غير الممكن للماء الاحتفاظ بنقائه وطهارته في إناء ملوث بالدم.
هذه كانت مشكلة أهل الكوفة مع الإمام الحسن المجتبى الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده الأليمة، فهو تسلّم الخلافة الشرعية والسياسية في وقت واحد –لأول مرة- من أبيه أمير المؤمنين، بيد أن الامة لم تكن بمستوى هذه الشخصية الفذّة، بل كانت بمستوى شخص مثل معاوية، ومن ثم ابنه يزيد، لذا فان المسؤولية الرسالية تحتم اتخاذ الموقف الحازم لإصلاح جانب مهم وحيوي من جسد الأمة، التي ربما يمكن وصفها باليد الضاربة، فيما كانت المدينة المنورة العاصمة الدينية، و الشام ومصر تمثل المورد الاقتصادي الأكبر للدولة الاسلامية، فكان لابد من تقويم عمل هذه اليد التي فطن أمير المؤمنين الى دورها المحوري في صنع الاحداث والمستقبل فاتخاذها عاصمة للدولة الاسلامية في عهده لتكون المشروع الرسالي القادم للإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، ومن ثمّ لتكون منطلقاً لتجارب ثورية وإصلاحية عبر التاريخ.
و رغم ما قدمه أمير المؤمنين من تجسيدات عملية للعدل والمساواة والحرية، وحتى الرفاهية في العيش خلال فترة حكمه، إلا أن اهل الكوفة لم يكونوا على استعداد للتغيير خلال فترة قصيرة أمضاها الامام الحسن حاكماً سياسياً، فمن اجل معالجة مجتمع موزع على الانتهازية، والتكفير، والثقافة الجاهلية، وجد أفضل خيار؛ عملية جراحية مقتصداً الكثير من الدماء، بيد أنها من الناحية السياسية كان يعد تنازلاً مؤلماً لمعاوية بقراره وقف الحرب التي هي امتداد للحرب الدفاعية التي خاضها أمير المؤمنين مع الأخير.
أراد الامام الحسن، عليه السلام، ان تكون الهدنة التي سماها التاريخ ظلماً "الصلح"، أن تكون نتيجة وإفراز طبيعي لخذلان المسلمين له في مواجهة الباطل والانحراف، فضرب بشدّة على آخر وتر في نفس الانسان وهو؛ الكرامة، فالانسان لا يرى حرجاً في الخوف من السلطة، فيحصل على المال والجاه والامتيازات وحياة الرفاهية وفق سياسة الترغيب والترهيب، ولكن من الصعب أن يشتري كل هذا بالذل والإهانة المباشرة، لذا نجد معظم الحكام عبر التاريخ –وهذا من نافلة القول- حرصوا على مراعاة هذه النقطة المحورية في النفس البشرية، فكانوا يوهمون الناس بأن طاعتهم المطلقة تحفظ لهم كرامتهم وعزتهم وحياتهم السعيدة.
هذا الوهم –الغدّة السرطانية- حاول الامام الحسن استئصاله من نفوس اهل الكوفة، بل والمسلمين جميعاً بفرض شروطه المعروفة على معاوية مقابل الهدنة والتنازل عن منصب الزعامة، فجاءت النتيجة سريعاً جداً من شخص معاوية نفسه عندما جاء الكوفة بعد التوقيع على المعاهدة، وقال ما قال لأهلها وهم غير مصدقين ما يسمعون من كلمات التقريع والإذلال؛ "ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك، إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون"! ونُقل عن رجل كان بين الناس: "هذا والله هو التهتّك"! وأكثر من هذا؛ إعلانه الاستخفاف ببنود المعاهدة كلها أمامهم: "كلها تحت قدمي"!
لم يكن قرار الهدنة سهلاً بالمرة، فأهل الكوفة يعدون انفسهم رجال حرب ومقاتلون من الدرجة الاولى، ولم يكونوا يرضون لانفسهم ما نصنفه اليوم لهم بأنهم كانوا منقسمين شرائح؛ منهم الانتهازيون، ومنهم التكفيريون (الخوارج)، وهكذا... لذا وصفوا الامام الحسن بأنه "مُذل المؤمنين"، بدلاً من وصفه بالأمس بأنه: أمير المؤمنين، ولعل هذا أمضّ على الامام الحسن المجتبى من أن يقتل بالسيف وسط المعركة ضد جيش معاوية، كما قتل أخيه الحسين، عليه السلام، في المعركة ضد جيش ابن زياد في كربلاء، فقد كانت "مهمة الامام الحسن أكثر وأهم وأثقل من مهمة الامام الحسين، لان مهمة الاعداد اصعب من مهمة تفجير الثورة التي قام بها الامام الحسين"، (ثورة الامام الحسن- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
تدمير الحصون الثقافية لمعاوية
المهانة والذل في كلمات معاوية كانت الخطوة الاولى في عملية تدمير الحصون الثقافية لمعاوية الذي تمترس خلف أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عادّاً إياها سنداً شرعياً لحكمه من خلال أشباه العلماء والمحدثين مثل سمرة بن جندب وأشباهه ممن باع دينه بالدنانير مقابل الكذب على النبي والتقوّل عليه و أنه امتدح معاوية، كما في القصة المشهورة التي باع معاوية حديثاً مكذوباً عن النبي الأكرم في آية قرآنية نزلت في حق أمير المؤمنين: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله....} بنصّ قول النبي، ثم يأتي هذا المحدّث المزوّر لينسبها لمعاوية مقابل 250ألف درهم بعد مفاوضات طويلة على الثمن!
في نفس الوقت كانت الماكنة الدعائية لمعاوية تبث في البلاد الاسلامية المترامية الاطراف، الاتهامات والافتراءات على أمير المؤمنين، وأنه تسبب في إراقة الدماء من اجل الحكم، وغيرها من الترّهات، لذا لم نقرأ في التاريخ أي اعتراض من أفراد الامة على لعن وشتم أمير المؤمنين على المنابر لسنوات طوال.
وما تزال بصمات هذه الدعاية الأموية في عقول بعض "المثقفين" حتى اليوم تظهر في مؤلفات وكتابات تبين أن فترة حكم معاوية هي "عام الجماعة"، وأن معاوية "مؤسس الدولة العربية"! بل يذهب البعض –للأسف- الى سوق اللوم الى أمير المؤمنين بعدم الشدّة والحزم مع من حاربهم في الجمل وصفين والنهروان، وأنه كان المفترض استئصالهم وإبادتهم جميعاً!
إن اصداء نبأ موت معاوية عند أهل الكوفة مثّل النقطة المضيئة لمرحلة الإعداد لثورة عاشوراء على يد الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، وهو شهيد تحت الثرى بعد اغتياله بالسمّ من قبل معاوية، فجاء رد الفعل العاطفي السريع بإرسال الدعوات والرسائل الى الامام الحسين وهو في المدينة أن "أقدم الينا فإنما تقدم على جندٍ لك مجنّدة"، وهذا الكلام و أشباهه لم يكن خدعة وكذبة منهم، إنما خرجت من إيمان ومعرفة بالامام الحسين، ومن يكون؟ إنما المشكلة كانت في سطحية هذا الايمان وضحالته، وعدم مقاومته للخوف من الموت، ومن ضياع المصالح الشخصية.
ولا ننسى أن الامام الحسن المجتبى، عاش مع أخيه الحسين، عليهما السلام، عشر سنوات في مدينة جدهما، بعيدين عن الحكم، ولكن لصيقين بالمجتمع وابناء الأمة، ينشرون الوعي ويصنعون الثقافة الأصيلة، ولعل تأثير الإمام الحسن على العقول والقلوب هو الذي دفع بمعاوية لاغتياله لئلا تصل الأمة درجة من الوعي تنقلب فيه على النظام الأموي، وقد نقل لنا التاريخ حالات يقظة و هزّة، ولو أنها خاطفة، حصلت بين افراد الأمة، منها؛ بين معسكر ابن سعد في معركة ا لطف، وفي الكوفة والشام بفضل خطابات ومحاججات الامام السجاد وعمته العقيلة زينب، عليهما السلام، خلال فترة السبي.
من هنا نفهم حقيقة دور الامام الحسن المجتبى في التأسيس لمرحلة الإعداد النفسي والفكري لأي نهضة إصلاحية شاملة، لتكون المرحلة القادمة؛ الانفجار والثورة على الواقع الفاسد، مع تحقيق أكبر قدر من المنجزات والنتائج الايجابية، كما حصل في واقعة عاشوراء، عندما خرجت الصفوة المؤمنة من الامة لمناصرة الامام الحسين في نهضته الإصلاحية، فخرج الشاب والطفل الصغير والمرأة والعبد والشيخ الطاعن في السن، بل حتى قائد عسكري من جيش العدو مثل؛ الحر الرياحي، كل أولئك من ثمار الثورة البيضاء للإمام الحسن المجتبى، عليه السلام.
هذا المنهج الرباني للإصلاح والتغيير هو الذي يؤتي بنتائجه العظيمة، أكثر من المنهج السياسي والدموي الطامح الى السلطة والنتائج السريعة والمنافع الشخصية والفئوية، مما "يلزمنا أن نفكر ونعمل كما كان يفكر ويعمل الامام الحسن المجتبى، لاننا في زمان تكالبت علينا قوى الكفر من كل جانب ومكان، من قوى الشرقيين وقوى الغربيين، وقوى اليهود، وقوى المسيحيين، وقوى الفساد المتمثل بالخمور والزنا، والسفور، وغيرها كثير، فنحن بحاجة لمواجهة هذه القوى الى اكبر قدر من العلم والوعي والعقلية حت نتمكن من أن نبقي على أنفسنا، ثم ننمّي انفسنا حتى نصل الى مستوى المواجهة".
اضف تعليق