الفارق كبير بين امرأة تتصور أنها ضعيفة ومهانة، وعليها فعل كل شيء للتخلص من هذا الشعور المزعج قبل كل شيء، و امرأة يغمرها الشعور بالكرامة والعزّ منذ سن الطفولة. هذا الفارق ينعكس بشكل أكيد على عملية تمكين المرأة، فتلك تريد التعويض عما لحق بها من خسائر بما تحصل عليه من امكانيات، بينما هذه تستثمر امكانات مودعة فيها اساساً...
"فوالله لا تمحو ذكرنا"
السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، عليهما السلام
هل أوصى الامام الحسين لزينب بأن تخطب في الكوفة والشام؟
في اللقاء الاخير؛ أوصاها بعدة وصايا، أهمها؛ حفظ العيال والاطفال، والصبر، وان تحستب الله –تعالى- ولم يرد أنه، عليه السلام، أوصاها بمواجهة عبيد الله بن زياد، او يزيد بالكلام والخطاب، وأن تخرج عن تحفظها المعروف وتُسمع الآلاف من الحضور، من المقربين والمتزلفين وكتاب التاريخ في تلك المحافل المشؤومة.
ربما كانت تكتفي باجابات مقتضبة لتحاشي المواجهة وإطالة الكلام مع اشخاص دونها المسافة بين السماء والارض، ولم تكن ملامة على ذلك، ونحن نعرف بأي حال كانت العقيلة مع البقية من أسرة الامام الحسين، وظروف السبي من كربلاء الى الكوفة، ومنها الى الشام.
هموم الأمة لا هموم شخصية
لمن يراجع خطابات العقيلة زينب في مسيرة السبي، يلاحظ نقطة جوهرية في هذه الشخصية التي جسدت التمكين بكل دلالاته وأبعاده، وهي تحملها أعباء الرسالة وهموم الأمة خلال لقاءاتها بأهل الكوفة والشام لتكمل مهمة الامام الحسين، عليه السلام، في إحياء النفوس وإثارة المشاعر الانسانية بكلماتها القارعة واللاذعة: "أمّا بعد :يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر !! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة. إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون؟ إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً".
كادت زينب أن تتعرض للاعتداء بالضرب على يد الطاغية ابن زياد لولا تدخل أحد المقربين بعد أن ألقمته الحجر في مواجهة كلامية حادّة بعد أن قال لها: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟! فقالت: عليها السلام: ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يؤمئذ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة"! وهي في ذلك غير عابئة بما أمامها، ولم تشكو ما بها من آلام، مسخرة امكاناتها لاهداف سامية.
ذات هذه الامكانية العالية ثبتها التاريخ للأجيال في مواجهتها الشجاعة ليزيد في الشام: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى أنَّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعِظَمِ خَطَرِكَ عنده، فشمَخْتَ بأنفِكَ، ونظرت في عطفِك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
هذا التسامي على الجراح هو الذي أخرس أهل الكوفة بإيمائة من يد العقيلة، كما في الرواية التاريخية، وخفف من وطأة المصاب لتنتقل أسرة الامام من حالة الأسر الى رحاب الحرية، ومن حالة الضعف الى القوة، ومن الدفاع الى الهجوم، فهي لم تفعل شيئاً لنفسها، بل كانت على قدميها طوال الوقت، والدليل؛ هجوعها بين جنح الظلام لتصلي الى ربها من جلوس.
لنتصور اليوم امرأة تمتلك الكثير من السمعة، والجاه، والمال، والمنزلة الاجتماعية، كأن تكون عالمة وأكاديمية، او زوجة رجل دولة مرموق، كيف يكون سلوكها العام مع الناس؟ بل كيف تفكر وتحكم على الأشياء؟ هل تتصدى –مثلاً- لما تراه من انحرافات سلوكية وثقافية على صعيد المجتمع؟
هذا الدور الزينبي فطنت اليه اخواتنا في عقد السبعينات من القرن الماضي عندما استثمرن ما لديهن من امكانات متواضعة في حجمها وعظيمة في آن، لنشر الوعي الديني والاخلاقي بين اترابهنّ من النساء والفتيات، لاسيما في الوسط الجامعي، بل وحتى في الوسط الاجتماعي خلال مجالس العزاء الحسيني الخاص للنساء، ولعل أعظم وأكبر امكانية كانت آنذاك؛ الشجاعة في الخطاب والقوة في الحُجة، والاستهانة بما تدعيه سلطات ذلك الزمان من امكانات مخابراتية وحزبية ومالية، مع ترهيب وترغيب منقطع النظير، لم يبق اليوم من كل ذلك سوى كلمات عابرة، بينما إشعاعات ذلك الحراك ما تزال آثاره في نفوس شريحة مؤمنة تقيم اليوم مجالس إحياء النهضة الحسينية، كما تستعين بها على تربية جيل مؤمن و ملتزم بالقيم والمبادئ، وإن كان في مساحة محدودة بالمجتمع.
إن التمكين الحقيقي ذلك الذي يرفع المرأة الى مراقي السمو والتكامل، عندما تتفاعل مع افراد أسرتها من؛ أب وأم واخوان وأخوات، بل مع الاقارب ايضاً، وفي الحياة الزوجية تتفاعل وتتكامل مع زوجها وامكاناته العلمية والثقافية والمالية، هذا التفاعل هو الذي يعطي للإمكانيات ثمارها السليمة على ارض الواقع.
تمكين أم تضعيف
من المهم جداً التعرّف على المباني الفكرية لأي مشروع حضاري واسع النطاق يتعلق بالأسرة والمجتمع، فدخول المرأة سوق العمل في البلاد الغربية جاء وفق النظرية الليبرالية المانحة للحريات الفردية، والواعدة للمساواة والرفاهية، تبعتها الليبرالية الاقتصادية التي وعدت الانسان الغربي بحقه في التملك والثراء من خلال عمله وانتاجه، وأنه مصان من التدخلات الحكومية ومضايقاتها، فراحت النساء يتسابقن على المصانع والمعامل والشركات التجارية لتوفير اكبر قدر من المال لتوفير السلع الاستهلاكية التي ظهرت بقوة مع ظهور الماكنة والتقنيات الحديثة والاكتشافات العلمية، وايضاً لتوفير الحياة المرهفة، ولا علينا بما جرى وظهر من نتائج كارثية على المرأة الغربية بخسارتها بيتها و أسرتها وحتى أنوثتها من اجل المال والشهرة، إنما المهم التركيز على قاعدة فكرية أسس لها المفكرون والفلاسفة الغربيون، وهي إن على المرأة ان تنتشل نفسها مما كان يصفونه بالضعف والمهانة والذل الى حيث الكرامة والقوة والعزّة، فقد كانت في سالف الزمان –في اوربا واميركا- ترعى أسرة كبيرة تضم من ستة الى عشر أبناء، وتقوم بمهام الطبخ والتنظيف، بل والمساعدة في الرعي وتربية الدواجن والابقار، بل وحتى صناعة المستلزمات اليدوية الداخلة في الحياة اليومية، وهذا يعني مما يعنيه؛ حياة التعب والانقياد للرجل، أما اليوم فهي مكتفية تماماً من حاجتها الى الرجل.
بينما نلاحظ المرأة في النظام الاجتماعي للإسلام فانها؛ كما الرجل، تمثل النبتة الصغيرة التي تحتاج للرعاية والتربية والنمو العقلي والبدني، فهو مُكرمة من الأساس كانسان؛ {ولقد كرمنا بني آدم}، كما جاء التكريم على لسان الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، بمعنى أن لا حدود أمام المرأة لطلب العلم والمعرفة، وهي في مقتبل العمر، حتى في حياتها الاجتماعية، عزيزة عند أهلها، مطيعة عند زوجها، مع وافر الحماية والرعاية من الجوانب كافة.
والفارق كبير بين امرأة تتصور أنها ضعيفة ومهانة، وعليها فعل كل شيء للتخلص من هذا الشعور المزعج قبل كل شيء، و امرأة يغمرها الشعور بالكرامة والعزّ منذ سن الطفولة. هذا الفارق ينعكس بشكل أكيد على عملية تمكين المرأة، فتلك تريد التعويض عما لحق بها من خسائر بما تحصل عليه من امكانيات، بينما هذه تستثمر امكانات مودعة فيها اساساً، ليس في تنمية قدراتها ومهاراتها الشخصية، فقط، وإنما للإسهام في البناء الاجتماعي والاقتصادي، وحتى السياسي.
اضف تعليق