عندما يتم بناء الفرد وفق هذا المنهج الذي يتمحور حول قيمة مهمة هي (نكران الذات) والتضحية من اجل الآخرين، فإن منظومة القيم النبيلة سوف ترسخ في شخصية الإنسان وتنمو معه، وتساعد على نماء القيم النبيلة الأخرى، لنصل بالنتيجة الى درجة من الارتقاء الفردي والمجتمعي...
في عاشوراء التي نعيش ذكراها هذه الأيام، تصبح مدينة كربلاء المقدسة قبلة لملايين الزوار المسلمين القادمين من دول وبقاع العالم كافة، لكي تحيي هذه الملايين الطقوس والشعائر الحسينية المقدسة، ترسيخا للقيم والمبادئ التي حملتها ثورة الإمام الحسين (ع)، حيث أعلن عليه السلام رفض المنهج التسلطي ليزيد الذي سعى لحرف الإسلام عن الخط القويم الذي جاء به رسول المسلمين محمد بن عبد الله (ص).
ففي مثل هذه الأيام يستذكر عموم المسلمين ومن بينهم الشيعة هذا المصاب الجلل، ويستعيدون الوقائع والأحداث بأدق تفاصيلها، ويتفحصون المواقف التي يتأجج أوارها بين الخير والشر، لنصل الى النتائج المستخلصة من هذا الصراع الأزلي، وهي في مجملها نتائج تضع قيم الحق في المكانة التي تستحقها، حيث يعلو الحق ولا يُعلى عليه.
هذه الملايين التي تتكدس في بقعة صغيرة هي مدينة كربلاء المقدسة، تحتاج الى خدمات مختلفة على مدار الساعة، وهي تستحق أن يقدم أهالي المدينة والعراق كله كل ما يحتاجه الزوار من مأكل ومشرب ومنام ومعالجات طبية وغسيل وما شابه، فالذي يقطع آلاف الكيلومترات من مختلف بقاع العالم لكي يؤدي مراسيم الزيارة لمرقد أبي عبد الله الحسين (ع)، يستحق أن يقدم له الجميع كل الخدمات التي تراعي أمور الراحة الجسدية والنفسية للزائر.
والحقيقة أن أهل العراق، وأهالي كربلاء المقدسة، يفخرون دائما بأنهم أهل لمثل هذا الدور في خدمة الزائرين الكرام، لاسيما أنهم تربوا في حياض قيم الكرم والسخاء ومد يد العون لكل من يحتاجها، لهذا نلاحظ هبة خدمية جماعية داخل المدينة المقدسة وفي كل المدن الأخرى، حيث يسعى الجميع بكل جدية في تقديم الخدمات المختلفة التي يحتاجها الزوار وهم في طريقهم الى كربلاء المقدسة او في داخلها.
ومن أهم ما تتميز به هذه الخدمات المختلفة والمتنوعة التي تُقدم للزوار، أنه طوعية جماعية بلا مقابل، أي أن الزائر الكريم، يأكل ويشرب وينام ويتداوى في حالة إصابته لوعكة ما، كل هذا يتم على نحو مجاني تتكفل بدفعه الناس التي تتبرع من أموالها الخاصة لكي تفي بهذه الخدمات، ليس هذا فحسب، وإنما يتم تقديم هذه الخدمات بجهود مضنية بلا مقابل، وهذا بحد ذاته يشكل خطوة كبيرة نحو نشر ثقافة الخدمة المدنية التطوعية وجعلها قيمة ذات طابع جمعي وطوعي حيث يتربى عليها جميع الفئات العمرية لاسيما صغار السن فتنمو معهم هذه القيمة العظيمة.
مما لا شك فيه أن غرس القيم في النفوس يستحسن أن يتم في عمر مبكر بالنسبة للإنسان، وخصوصا القيم النبيلة التي ينبغي أن يتم غرسها في قلوب ونفوس وأذهان وشخصيات الصغار، حتى يتعلموا تقدم الخدمات الطوعية بلا مقابل، فهناك مجتمعات كبيرة تمكنت أن تحقق نتائج مهمة على طريق التقدم من خلال نشر وترويج وتثبيت القيم النبيلة في نفوس الشعب، وقد بدأت الخطوة الأولى بالصغار، حيث رسخت هذه القيم في نفوسهم، وكبرت معهم.
وعندما أصبحوا شبابا وكهولا وشيوخا، بقيت هذه القيم نابتة في نفوسهم وطبائعهم كما تنبت جذور الأشجار في التربة الطيبة، أما كيفية تثبيت وترويج هذه القيم وزجها في نفوس الناس وشخصياتهم، فهذا نوع آخر من الخدمة التي ينبغي أن ننشر من خلالها منهج عاشوراء والقيم التي نهض بها الإمام الحسين عليه السلام، أما الذي يتصدى لهذا النوع من الخدمة، ونقصد بها غرس القيم الإنسانية الصالحة، كالتعاون والخدمة الطوعي او العمل التطوعي والتسامح والتكافل والاحترام والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والحرص على حقوق الآخرين، هذه القيم ينبغي أن يتصدى لتثبيتها كل شخص يكون قادرا على ذلك.
فرجال الدين تقع عليهم هذه المهمة او جانبا منها، والخطباء، والدعاة، والمثقفون أيضا عليهم دور ترسيخ القيم النبيلة ومن أهمها الخدمة الطوعية، والقيم الأخرى، أما لماذا ينبغي أن يتصدى هؤلاء النخب للقيام بهذا الدور الجوهري والحيوي، فإن المؤهلات التي تتوافر لديهم، ومستوى الوعي والثقافة وخزين المعلومات والتجارب، كل هذا يستدعي منهم أن يتقدموا طوعيا لمساعدة الآخرين لاسيما الصغار منهم، على فهم القيم والإيمان بها والعمل في ضوئها على نحو دائم.
وحتما أن غرس هذه القيم، سوف يعضّد قيم الأخلاق في المجتمع، ويجعل من الأفراد أكثر حرصا على مد يد العون بصورة متبادلة فيما بسنهم، مع أهمية الاندفاع الى تقديم الخدمات بشكل مجاني، وهو أمر في غاية الأهمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالزوار الكرام، ففي الحقيقة أن الزائر الذي يقطع مسافات كبيرة حتى يصل الى مرقد الحسين (ع) يستحق منا أن نخدمه أولا من باب الضيافة والكرم الإنساني، وثانيا لأنه سيحمل معه الى موطنه انطباعات ما يراه من رعاية وخدمة يستحقها بطبيعة الحال.
في عاشوراء تتحول مدينة كربلاء المقدسة الى خلية نحل، تقدم الخدمات كافة بصورة طوعية، يتم ذلك في عمل منسق ومنتظم يسوده التعاون والدقة، ولاحظنا استفادة هؤلاء الذين يخدمون الزوار من الأخطاء السابقة، فمثلا كانت المواكب في السابق تترك مخلفاتها في شوارع المدينة، ما يشكل عبئا على دوائر البلدية عند التنظيف، لكن تنبّه القائمون على خدمة الزوار الطوعية الى هذا الخلل وبادروا الى جمع المخلفات على مدار الساعة، وهي خطوة جيدة تدل على شعور عال بالمسؤولية وارتقاء في الذوق.
كذلك عندما يلاحظ الصغار اندفاع الكبار في تقديم الخدمات المختلفة بشكل طوعي، فإنهم سوف يتعلمون من آبائهم هذا السلوك المتحضّر، فليس كل شيء يجب أن يكون مقابله ثمن، هناك نوع من التعاون الإنساني ينبغي أن يسود بين الناس بلا مقابل، لقد شجع الأنبياء والدعاة الصالحون الى أهمية أن يكون الإنسان خادما للآخرين من دون مقابل، وشجعوا على انتشار هذا السلوك المتحضر بين بني البشر.
ما يحدث في عاشوراء هو نوع من هذا القبيل، حيث تهب الجموع لاستقبال الزوار وتقدم لهم كل ما يحتاجونه، والأمر المهم في هذا الجانب، أن الخدمة طوعية، أي يقوم الناس بهذه الخدمة من دون ضغط أو إجبار، والأمر الثاني أنها خدمة مجانية تبتغي مرضاة الله بالدرجة الأولى، لذلك تعد الخدمة التطوعية من هذا القبيل من أنبل القيم التي ينبغي أن يعتادها الإنسان طفلا ثم شابا ثم كهلا، حتى تبقى هذه القيمة معه الى آخر لحظة من حياته.
وعندما يتم بناء الفرد وفق هذا المنهج الذي يتمحور حول قيمة مهمة هي (نكران الذات) والتضحية من اجل الآخرين، فإن منظومة القيم النبيلة سوف ترسخ في شخصية الإنسان وتنمو معه، وتساعد على نماء القيم النبيلة الأخرى، لنصل بالنتيجة الى درجة من الارتقاء الفردي والمجتمعي، يصنع إنسانا ومجتمعا يحمل في طيّاته أرقى القيم وأعظمها، وهذا هو الهدف الأهم من لسعي الدائم لنشر القيم الجيدة، ومنها وربما أهمها قيمة الخدمة الطوعية التي تشذب منظومة الأخلاق وتجعلها أرقى وأكثر قدرة على بناء المجتمع المدني المتحضّر.
اضف تعليق