درس أوضاع المجتمع وعرف أنّ الدين لعق على ألسنة الناس، إلاّ أنّه أيقن أنّ تضحيته ستعود على المسلمين بالخير العميم؛ فستتحرر إرادتهم، ويهبّون إلى ميادين الجهاد، ويرفعون أعلام الحرية، وينزلون الجبابرة الطغاة مِنْ بني أُميّة مِنْ عروشهم إلى قبورهم. واختار هذا الطريق المشرق على ما فيه مِنْ مآسي...
ـ 1 ـ
وأثّرت الأحداث الرهيبة التي عاصرها الإمام الحُسين (عليه السّلام) تأثيراً هائلاً في تغيير مناهج الحياة الفكرية والاجتماعية في الإسلام، كما لعبت دورها الخطير على مسرح الحياة السياسية على امتداد التاريخ، وكان مِنْ أبرز نتائج تلك الأحداث التناحر على السّلطة، والتنافس على الحكم، والصراع على الظفر بخيرات البلاد.
وكان مِن الطبيعي أنْ يحدث ذلك الصراع السياسي بأقسى صوره وأبشع ألوانه، وأنْ يحتدم الجدال كأشدّ وأعنف ما يكون الجدال؛ فقد سحرت عيون الكثيرين مِنْ الصحابة والتابعين ما رأوه مِنْ ألوان الترف وخفض العيش ورقّته، وما شاهدوه مِنْ جلال المُلْك الذي أزالوه مِنْ فارس، وما احتلّوه مِنْ بلاد الروم، وهالتهم الفتوحات التي تقوم بها الجيوش الإسلامية وما يفتح الله على أيديهم، وما يجلبونه مِن البلاد المحتلة مِن الرقيق وسائر الأموال التي لمْ يكونوا يحلمون بالنظر إليها، كلّ ذلك دفعهم إلى التّهالك على السّلطة، وفتنهم عن دينهم.
واستشف الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) مِنْ وراء الغيب ما تبلغه أُمّته مِن المجد والسّيادة على جميع شعوب الأرض، وسقوط الدول الكبرى تحت وطأة الزحف الإسلامي المقدّس، فأذاع ذلك بين المسلمين وآمنوا به كجزء من عقيدتهم، كما استشف النّبي (صلّى الله عليه وآله) مِنْ وراء الغيب ما تُمْنى به أُمّته مِن الفتنة والفرقة، فاحتاط لها كأشدّ ما يكون الاحتياط، فوضع لها رصيداً يحسم كلّ داء، ويقضي على كلّ خلاف، فدلّل على إمامة العترة الطاهرة مِنْ أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ولمْ يكن بذلك مدفوعاً بدافع العاطفة أو الحبّ؛ فإنّ شأن النّبوة أسمى مِنْ أنْ يخضع لأي عامل مِنْ عوامل الحبّ، أو غيره مِن الاعتبارات الماديّة.
وبلغت أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فضل عترته حدّ التواتر، ولمْ يتطرّق إليها الريب والشك عند أحد مِن المسلمين؛ فقد قرنهم بمحكم التنزيل ـ الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه ـ وجعلهم سفن النّجاة وأمْنَ العباد. وأمّا سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنّه ـ حسب النّصوص النّبوية ـ أخو النّبي ونفسه، وباب مدينة علمه، وأقضى أُمّته، وأنّه منه بمنزلة هارون مِنْ موسى، و«مَنْ كنت مولاه فهذا علي مولاه...». ولكنّ القوم كرهوا اجتماع النّبوة والخلافة في بيت واحد؛ فتأوّلوا النّصوص، وزووا الخلافة عن أهل بيت النّبوة ومعدن الحكمة ومهبط الوحي، وحرموا الأُمّة مِنْ التمتّع بظلال حكمهم الهادف إلى نشر عدالة السّماء في الأرض.
وأدّت عملية الفصل إلى التطاحن الفظيع على كرسي الحكم بين الأُسَرِ البارزة في الإسلام؛ فمُنِيَتِ الأُمّة مِنْ جراء ذلك بالكوارث والخطوب الني أحالت الحياة في تلك العصور إلى جحيم لا يُطاق، فقد كان حكم النطع والسيف هو السائد بين النّاس.
ـ 2 ـ
وظهر الصراع السّياسي بأبشع ألوانه حينما استولى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على زمام السّلطة في البلاد، فقد تحرّكت القوى الطامعة في الحكم وهي تُعلن العصيان المسلّح؛ محاولة بذلك إسقاط حكومته التي احتضنت مصالح الشعوب الإسلامية، وتبنّت حقوق الإنسان، وراحت تؤسس معالم العدل والحقّ، وتدكّ حصون الظلم، وتنسف قلاع الباطل، وترفع منار الكرامة الإنسانية، وتقضي على جميع أسباب التخلّف والفساد التي تركها الحكم المباد.
لقد أوجد الإمام (عليه السّلام) انقلاباً جذريّاً، وتحوّلاً اجتماعيّاً في الميادين السّياسية والفكرية والاقتصادية التي كان منها العدالة في التوزيع، وإلغاء الامتيازات التي منحتها حكومة عثمان لبني أُميّة وآل أبي معيط، ومصادرة الأموال التي اختلسوها بغير حقّ، وعزل الولاة وسائر الموظّفين الذين اتّخذوا الحكم وسيلة للإثراء والاستعلاء على النّاس بغير حقّ. وقد أدّت التغييرات الاجتماعية التي أوجدتها حكومة الإمام (عليه السّلام) إلى زيادة الأزمات النّفسية في نفوس القرشيين وغيرهم مِن الحاقدين على الإصلاح الاجتماعي؛ فأيقنوا أنّ حكومة الإمام ستدمّر مصالحهم الاقتصادية وغيرها، فهبّوا متضامنين إلى إعلان المعارضة.
ومِن المؤسف حقّاً أنْ تضمّ المعارضة بعض أعلام الصحابة كطلحة والزبير، وأنْ يكون العضو البارز فيها السيّدة عائشة زوج النّبي (صلّى الله عليه وآله)، ومِن المؤكد أنّه لمْ تكن للمعارضين أيّة أهداف اجتماعية أو إصلاحية، وإنّما دفعتهم الأنانية والأطماع حسب التصريحات التي أدلوا بها في كثير مِن المناسبات، وقد كان في طليعة القوى المتآمرة على الإمام الحزب الاُموي؛ فقد سخّر جميع أرصدته المالية التي حصل عليها أيّام حكومة عثمان، فجعلها تحت تصرّف المعارضين، فاشتروا جميع أدوات الحرب، ووهبوا الكثير من الأموال للمرتزقة، وقد اندلعت بذلك نار الحرب التي أسماها بعض المؤرّخين بحرب الجمل، وقد أسرع الإمام (عليه السّلام) إليها فأخمد نارها، وقضى على معالمها، إلاّ أنّها أسفرت عن أفدح الخسائر التي مُنِيَ بها المسلمون، فقد فتحت باب الحرب بين المسلمين، ومهّدت الطريق إلى معاوية أنْ يعلن تمرّده على الإمام (عليه السّلام)، ويناجزه أعنف الحروب وأشدّها ضراوة.
وأخذت الأحداث الجسام يتّصل بعضها ببعض، ويتفرّع بعضها على بعض حتّى انتهت بمقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وخذلان ولَده الحسن (عليه السّلام)، وانتصار القوى الحاقدة على الإسلام. ويتعرّض هذا الكتاب إلى تفصيل ذلك بصورة موضوعية بما لا تحيّز فيه.
ـ 3 ـ
ونجحت الاُمويّة بأساليبها الماكرة، وبما استخدمته مِنْ وسائل دبلوماسيتها الغادرة في الاستيلاء على السّلطة في البلاد، وظهرت على الصعيد الإسلامي دولة الاُمويِّين بقيادة زعيمهم معاوية بن أبي سفيان؛ القائد الأوّل لجميع عمليات الحروب التي ناهضت الإسلام حينما فجّر المعلم والقائد الرسول (صلّى الله عليه وآله) دعوته الخلاّقة الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي، وتأسيس مجتمع يقوم على العدل والمساواة.
ووقعت الأُمّة فريسة تحت أنياب الاُمويِّين، واستسلمت لحكم إرهابي عنيف تتصاعد فيه الأحقاد والأضغان على قيَم الأُمّة ومكوّناتها الفكرية والاجتماعية، وإزالة ما حقّقه الإسلام مِن المكاسب على الصعيد الاقتصادي والسّياسي والتربوي.
واتّجهت السّياسية الاُمويّة تضع المخطّطات الرهيبة للقضاء على مقوّمات الأُمّة، واستئصال أرصدتها الروحية والفكرية، وكان مِنْ أفجع وأقسى ما اتّخذته مِن المقررات السّياسية ما يلي:
أ ـ الحطّ مِنْ قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم مركز الوعي الاجتماعي في الإسلام، والعصب الحسّاس في جسم الأُمّة الذي يمدّها بالنهوض والارتقاء. وقد سخّرت السّلطة جميع أجهزتها السّياسية والاقتصادية، وسائر إمكانياتها الاُخرى لتحويل قلوب المسلمين عن أهل البيت (عليهم السّلام)، وفرض بغضهم على واقع الحياة الإسلامية، وجعله جزءاً لا يتجزَّأ من الإسلام. وقد استخدمت في هذا السبيل أجهزة التربية والتعليم، وأجهزة الوعظ والإرشاد وغيرها، واتّخذت سب العترة على المنابر فرضاً واجباً تحاسب عليه، وتنزل أقصى العقوبات على مَنْ يتهاون في أدائه.
ب ـ إبادة العناصر الواعية في الإسلام، والتي تربّت على هديه وواقعه؛ فقد ساقت إلى ساحات المجازر أعلام الإسلام، كحِجْر بن عدي، وميثم التّمار، ورشيد الهجري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأمثالهم مِنْ الذين يملكون القدرة على التوجيه الاجتماعي، والقابلية على صيانة الأُمّة مِنْ الانحراف والسلوك في المنعطفات، وتذّرعت السّلطة في سفك دمائهم مِنْ أنّهم خلعوا يد الطاعة، وفارقوا الجماعة، ولمْ يكن لذلك أي نصيب مِن الصحة، وإنّما رأوا الاتجاه السّياسي يتصادم مع الدين، ويتصادم مع مصالح الأُمّة فأمروا السّلطة بالاستقامة، والخلود إلى التوازن، ومجافاة الأضرار بمصالح المجتمع، فاستباحت مِنْ أجل ذلك دمائهم.
ج ـ تغيير الواقع المشرق للإسلام، وقلب جميع مفاهيمه ومقوّماته، وتدنيسه بالخرافات والأوهام حتّى تشلّ طاقاته، ويصبح عاجزاً عن مسايرة الحياة والانطلاق مع الإنسان لتنمية ملكاته وقدراته وتطوير وسائل حياته؛ ووضعت الحكومة لجان الوضع، ورصدت لها الأموال الهائلة لتضع الأحاديث على لسان المنقذ العظيم الرسول (صلّى الله عليه وآله) لتكون مِنْ بنود التشريع، وتلحق بقافلة السُنّة التي هي مِنْ مدارك الأحكام.
وقد راح الوضّاعون يلفّقون الأكاذيب وينسبونها للنّبي (صلّى الله عليه وآله)، وكثير ممّا وضعوه يتنافى مع منطق العقل، ويتجافى مع سنن الحياة. ومِن المؤسف أنّها دوّنت في كتب السُنّة، ودُرجت في كتب الأخبار، ممّا اضطر بعض الغيارى من علماء المسلمين أنْ يؤلّفوا بعض الكتب التي تدلل على بعض تلك الموضوعات، وفيما أحسب أنّ هذا المخطط الرهيب من أفجع ما رزء به المسلمون؛ فإنّه لم يكن الابتلاء به آنياً مِن الزمن، وإنّما ظلّ مستمراً مع امتداد التاريخ، فقد تفاعلت تلك الموضوعات مع حياة الكثير من المسلمين، وظلّوا متمسكين بها على أنّها جزء مِنْ دينهم، وقد وضعت الحواجز في نمو المواهب وانطلاق الفكر، كما بقيت حجر عثرةٍ في طريق التطوّر والإبداع الذي يريده الإسلام لأبنائه.
ـ 4 ـ
وعانى الإنسان المسلم في عهد معاوية ضروباً شاقةً وعسيرةً من المِحن والبلوى، فقد جهدت حكومة معاوية على نشر الظلم والجور في جميع أرجاء البلاد، وعهدت بأمور المسلمين إلى الجلاّدين والجزّارين، أمثال زياد بن أبيه، وبسر بن أبي أرطاة، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، وأمثال هؤلاء مِنْ أرجاس البشرية، وقد صبّوا على الناس وابلاً مِن العذاب الأليم لمْ تشهد له الإنسانية مثيلاً في كثير مِنْ مراحل تاريخه.
لقد كانت المظالم الاجتماعية في عهد معاوية بمرأى مِن الإمام الحُسين (عليه السّلام) ومسمع، فروّعته وأفزعته إلى حدّ بعيد، فقد كان بحكم قيادته الروحية لأُمّة جدّه يحسّ بأحاسيسها، ويتألم لآلامها، ويحيا بحياتها، وكان مِنْ أعظم ما عاناه مِن المِحن والخطوب تتبّع الجزارين والجلاّدين مِنْ ولاة معاوية لشيعة أهل البيت؛ إمعاناً في قتلهم، وحرقاً لبيوتهم، ومصادرة لأموالهم، لا يبالون جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.
وقد قام الإمام (عليه السّلام) بدوره في شجب تلك السّياسة الظالمة، فبعث المذكّرات الصارخة لطاغية دمشق يشجب فيها الإجراءات الظالمة التي اتّخذها عمّاله وولاته لإبادة محبّي أهل البيت (عليهم السّلام) والعارفين بفضلهم، وقد جاء في بعض بنودها أنّه نفى أنْ يكون معاوية مِنْ هذه الأُمّة، وإنّما هو عنصر غريب ومعادٍ لها.
والحقّ إنّه كذلك؛ فقد أثبتت تصرفاته السّياسية أنّه مِنْ ألدّ أعدائها، وأنّه كان يبغي لها الغوائل، ويكيد لها في غلَس الليل وفي وضح النّهار، قد جهد في إذلالها وإرغامها على الجور. وكان مِنْ أفجع ما رزأ به معاوية الأُمّة أنّه فرض خليعه المهتوك يزيد القرود والفهود ـ كما يسمّيه المؤرخون ـ خليفة عليها؛ يعيث في دينها ودنياها، ويجرّ لها الويلات والخطوب.
ـ 5 ـ
وفقدت الأُمّة في عهد معاوية وخليعه يزيد جميع عناصرها ومقوماتها، ولمْ تَعُدْ خير أُمّةٍ أُخرجت للناس ـ حسب ما يريده الله لها ـ فقد عاث فيها معاوية فربّاها على الوصولية والانتهازية، وربّاها على الذلّ والعبودية، وسلب عنها صفاتها، وجرّد عنها أخلاقها القويمة، فلمْ تعدْ تهتم بتحقيق أهدافها وآمالها، ولا بما يضمن لها الحياة الكريمة؛ فقد استسلمت للحكم الاُموي، وقبعت ذليلةً مهانةً تحت وطأة سياطه، وهو يسفك دماءها، ويستنزف ثرواتها، ويشيع فيها الجور والفساد، فقد تخدّرت بشكل فظيع، وأصبحت جثةً هامدةً لا وعي فيها ولا حراك، فلمْ تهبّ للدفاع عن كرامتها وعزّتها، ولمْ تنطلق في ميادين الشرف والتضحية لتحمي نفسها مِنْ الظلم والاعتداء.
رأى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ـ وهو سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأمله الباسم الذي تجسّدت فيه جميع طاقاته ـ حالة المسلمين، وما هم فيه مِن الذلّ والهوان، وإنّهم لمْ يُعوّدوا تلك الأُمّة العظيمة التي تبنّت رسالة الإسلام، وحملت مشعل الهداية والنور إلى جميع شعوب الأرض. واستوعب الألم القاسي مشاعر الإمام (عليه السّلام) وعواطفه، وراح يُطيل التفكير، وينفق الليل ساهراً في إنقاذ دين جدّه العظيم وحمايته مِن الردّة الجاهلية؛ فعقد المؤتمرات تارةً في مكة واُخرى في يثرب، وعرض على الصحابة وأبنائهم الحالة الراهنة التي مُنِيَ بها المسلمون، وأخذ يُدلي بمنكرات معاوية وموبقاته.
وقد استبان له أنّ هذه الطريقة لا تُجدي بأيّ حالٍ في ميادين الإصلاح الاجتماعي، ولا يمكن أنْ تردّ شوارد الأهواء، وترجع للأُمّة ما فقدته مِنْ معنويات، فرأى أنّه بين أمرين لا ثالث لهما، وهما:
1 ـ أنْ يسالم الاُمويِّين ويبايع ليزيد، ويغضّ الطرف عمّا تقترفه السّلطة مِن الظلم والجور، وما تعانيه الأُمّة مِن الأزمات في مجالاتها العقائدية والاجتماعية، ويكون بذلك ـ على سبيل الاحتمال لا القطع ـ قد ضمن سلامته وحياته، ولكنْ هذا ممّا يأباه الله له، ويأباه ضميره الحي المترع بتقوى الله؛ فهو بحسب مكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مسؤول أمام الله عن صيانة الأُمّة وحماية أهدافها ومبادئها، ومسؤول أمام جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن رعاية الإصلاح الاجتماعي، وصيانة الإسلام مِنْ عبث العابثين وكيد الفاجرين.
وقد أعلن (سلام الله عليه) هذه المسؤولية الخطيرة، وما يفرضه الواجب عليه في خطابه الذي ألقاه على الحُرّ وأصحابه مِنْ شرطة ابن زياد، قائلاً: «أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلمْ يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله...».
لقد كان الواجب الشرعي حسبما أدلى به ممّا يحتّم عليه القيام في مقارعة الظلم ومناهضة الجور، والضرب على أيدي المعتدين والظالمين.
2 ـ أنْ يعلن الثورة ويضحّي بنفسه وأهل بيته وشيعته، وهو على يقين بعدم نجاح الثورة، فقد درس أوضاع المجتمع وعرف أنّ الدين لعق على ألسنة الناس، إلاّ أنّه أيقن أنّ تضحيته ستعود على المسلمين بالخير العميم؛ فستتحرر إرادتهم، ويهبّون إلى ميادين الجهاد، ويرفعون أعلام الحرية، وينزلون الجبابرة الطغاة مِنْ بني أُميّة مِنْ عروشهم إلى قبورهم. واختار هذا الطريق المشرق على ما فيه مِنْ مآسي وخطوب لا يطيقها أي كائن حي.
ـ 6 ـ
ودرس الإمام (عليه السّلام) أبعاد التضحية بعمق وشمول، فرأى أنْ يزّج بجميع ثقله في المعركة، ويقدّم أروع التضحيات التي تهزّ الضمير الإنساني على امتداد التاريخ، ويُعيد للأُمّة أصالتها ووعيها عبر أجيالها الصاعدة....
لقد خطّط الإمام (عليه السّلام) فصول مأساته، وفصول تضحيته على أُسسٍ عميقة مِن الوعي والإدراك بحيث تؤدي إلى النتائج المشرقة التي منها انتصار القضية الإسلامية، وإعادة الحياة الدينية إلى شرايين الأُمّة، وإزالة التخدير الذي بسطه الاُمويّون على جميع أجزائه. وقد أعلن (سلام الله عليه) ما صمّم عليه، وأذاع فصول مأساته الخالدة في كثير مِن المناسبات، وهذه بعضها:
1 ـ أدلى بمصرعه ـ وهو بمكّة ـ في خطابه الذي أعلن فيه الثورة على بني أُميّة، فقد جاء فيه: «وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عسلان الفلوات بين النّواويس وكربلاء...». أليس في هذا الكلام دلالة على روعة العزم والتصميم على التضحية؟ أليس فيه إخبار جازم عن مصرعه الكريم، وأنّه في كربلاء؟ فهي التي تحظى بمواراة جثمانه الطاهر، كما أذاع ذلك جدّه وأبوه مِنْ قبل.
2 ـ وأعلن الإمام العظيم المآسي الأليمة، والخطوب المفجعة التي تحلّ بأهل بيته مِن القتل والسبي والأسر، وذلك حينما أشار عليه ابن عباس بأنْ لا يحمل معه مخدّرات النّبوّة وعقائل الوحي إلى العراق، ويتركهن في يثرب حتّى تستقيم له الاُمور، فأجابه الإمام (عليه السّلام) قائلاً: «قد شاء الله أنْ يراهن سبايا».
لقد صحب معه عياله وهو يعلم ما سيجري عليها مِن الأسر والسّبي؛ لأنّ بها سوف تستكمل رسالته، وتؤدّي فعاليتها في القضاء على العرش الاُموي، وإعادة الحياة الإسلامية إلى واقعها المُضيء.
3 ـ كان الإمام (عليه السّلام) يتحدّث وهو في طريقه إلى العراق مِنْ أنّ رأسه الشريف سوف يُرفع على الحراب، فيُطاف به في الأقطار والأمصار، ويُهدى إلى بغي مِنْ بغايا بني أُميّة كما صُنِعَ برأس أخيه يحيى بن زكريا، حيث أُهديَ إلى بغي مِنْ بغايا بني إسرائيل.
لقد استهان بجميع ما يعانيه في سبيل إحقاق الحقّ وإعلاء كلّمة الله في الأرض.
ـ 7 ـ
وفجّر الإمام (عليه السّلام) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب، وجعلها عبرةً لاُولي الألباب، وهي بجميع مخطّطاتها جزءٌ مِنْ رسالة الإسلام، وامتداد مشرق لثورة الرسول الأعظم، وتجسيد حي لأهدافه وآماله، ولولاها لذهبت جهود النّبي (صلّى الله عليه وآله) وضاعت آماله، ولمْ يبقَ للإسلام أثر ولا عين.
لقد انتصر الإمام الحُسين (عليه السّلام) وفتح الله له الفتح المبين؛ فقد أشرقت سماء الإسلام بثورته الخالدة، وتفاعلت تضحيته مع مشاعر الناس وعواطفهم وامتزجت بقلوبهم، وأصبحت أعظم مدرسة للإيمان بالله؛ تبث روح العقيدة والفداء في سبيل الحقّ والعدل، وتغذّي الناس بالقيم الكريمة والمُثل العُليا، وتعمل على توجيههم نحو الخير، وتهديهم إلى سواء السّبيل.
لقد أقبل الناس بلهفة على مأساة أبي الأحرار، وهم يمعنون النظر في فصولها، ويقتبسون منها أروع الدروس عن الكرامة والتضحية، والبطولات الخارقة والعزّة التي لا يلويها الظلم والجور. إنّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وإكباراً للإمام العظيم الذي رفع راية الحقّ عالية خفاقة، وتبنّى حقوق المظلومين، ودافع عن مصالح المضطهدين...
وإنّها لتمجّد ذكره أكثر ممّا تمجّد أي مصلح اجتماعي في الأرض، وقد أحرز الإمام العظيم بذلك مِن النصر ما لمْ يحرزه غيره مِن المصلحين في العالم.
لقد كان مِن أوليات النّصر الذي حقّقه الإمام (عليه السّلام) تحطيم الكيان الاُموي؛ فقد وضعت ثورته الخالدة العبوات الناسفة في قصور الاُمويِّين، وألغمت طريقهم، فلمْ يمض قليل مِن الزمن حتّى تفجّرت فأطاحت برؤوس الاُمويِّين، واكتسحت نشوة نصرهم، وجعلتهم أثراً بعد عين.
اضف تعليق