في كل عاشوراء وكل زيارة أربعين، تنتعش الأخلاق والقيم، ويسودنا الأمان والاستقرار، ونعيش أياما مملوءة بالخيرات والأخلاق والسلوك الإنساني، الكل يحب الكل، الكل يضحي من أجل الكل، الكل يقدم خدماته بلا مقابل وتنتشر روح التعاون، هذه الأخلاق هي التي تبني مجتمعا عادلا، وهي القيم التي نحتاجها...
الشباب العراقيون ينظرون اليوم إلى زيارة الأربعين كالمنقذ لهم من الأوضاع الصعبة التي يعيشونها، فمن ناحية نسبة الشباب كبيرة قياسا لبقية الفئات من المجتمع العراقي، ومن ناحية أخرى هذه النسبة الكبيرة تتعرض (عن قصد أو بدونه) إلى إهمال، وتتعرض بسبب مواقع التواصل والانترنيت من هجمات ثقافية لا أخلاقية، تريد زعزعة ثقتهم بالقيم والأخلاق والعقائد التي فتحوا عيونهم عليها وترعرعوا في ربوعها.
زيارة الأربعين وثقافة عاشوراء هي حبل الإنقاذ الذي يتمسك به الشباب، يجدون في هذين الشهرين مجتمعا آخر غير الذي يعيشون فيه، وقيم وسلوكيات أخرى غير التي تسبق عاشوراء والزيارة حيث التعاون، العطف، الخدمة بلا مقابل، الإيثار المستمر، المحبة والأمل بغد أفضل، كل هذا يعيشه الشباب في هذين الشهرين، فيصير لديهم أمل كبير بأن تستمر هذه الأوضاع الإيجابية لما بعد الزيارة الأربعينية.
نحتاج إلى القيم والعادات والسلوكيات التي تعم العراق في زيارة الأربعين وعاشوراء، نتطلع إلى قيم عاشورائية لا تزول بانتهاء أيام ذكرى الزيارة، فلا نجد الإنسان الذي يفضل نفسه على الآخرين، ولا الذي يراعي مصالحه ومنفعته أكثر من الآخرين، ولا الذي يحرص على راحته أكثر من الآخرين، الناس أولا ثم مصلحتي ومنفعتي، هذه هي الأخلاق والقيم والسلوكيات التي تعمّ الناس في عاشوراء وزيارة الأربعين، كيف يمكن أن تستمر هذه الأخلاق وتصبح ثقافة تلازمنا في حياتنا كلّ يوم؟
شبكة النبأ المعلوماتية ناقشت هذا الموضوع، وطرحت مشكلة المادية والنفعية والانتهازية في المجتمع، وبحث الأضرار التي تنتج عنها، فسألت مجموعة من المهتمين والكتاب عن كيفية استثمار قيم عاشوراء لحماية المجتمع من العلاقات النفعية الانتهازية؟
إننا محظوظون بالإمام الحسين (ع)
الدكتور عباس حمزة المسعودي، مديرية تربية كربلاء المقدسة أجاب عن سؤالنا بالقول: هل نبالغ كثيرا إذا قلنا بأننا محظوظون؟، بالطبع كلا، فنحن على قدر كبير من الحظ بسبب الفرص الكثيرة الممنوحة لنا كي نصحح مساراتنا، فبمبادئ الإمام الحسين عليه السلام، وبالنور الذي تبثه قيم عاشوراء وبالمواقف العظيمة التي اقترنت بملحمة كربلاء نحصل على فرص كثيرة نقوم من خلالها بتصحيح أخطاءنا، وأقصد أخطاء الماضين والحاضرين والقادمين أيضا، فما دام الإنسان يواصل مسيرة الحياة يبقى معرّضا للأخطاء والذكي النقي منهم هو الذي يبادر للاستفادة من قيم عاشوراء.
العراقيون تعرضوا عبر تاريخهم إلى حملات تشويه مرعبة، منها أخلاقية ومنها عقائدية ودينية وثقافية، وحاولت جهات كثيرة أن تخلخل وتدمر الوشائج الرابطة للشرائح الاجتماعية، ونجحوا في بعض محاولاتهم، وزرعوا بؤر الضعف هنا وهناك، وتم تحويل الإنسان إلى دمية مسيّرة غير مخيرة، وباتت رغباته تعصف به، وتستبيحه أهواؤه، وتحول إلى إنسان مادي لاهث وراء السلطة والمال والمنفعة، ولا تخطر في باله قيم أو مبادئ أو ثوابت أخلاقية.
هذا الواقع أثّر على العراقيين بشكل خاص وعلى المسلمين بشكل أعمّ وبات من الواجب الحتمي أن نضع حدا للتدهور المادي النفعي الذي كبّل الناس، وأن نستنهض قيم عاشوراء، وننشرها ونبثها في القلوب والنفوس مجددا، مستفيدين من زيارة الأربعين وما يرافقها من مسيرات مليونية للزوار، يخدمهم أعداد كبيرة مختلف الخدمات المضنية والمتعبة، وكل هذه الخدمة بلا مقابل ولا مصلحة ولا منفعة مباشرة أو غير مباشرة.
زيارة الأربعين مدرستنا الأخلاقية التي تستنهض فينا القيم من جديد، لتصنع الإنسان العراقي الذي يقدم كل ما يستطيع للآخرين دون مقابل هذه الصورة العظيمة من نكران الذات والإيثار وقتل الثقافة النفعية والانتهازية والمادية، هي أملنا في صنع مجتمع معاصر قوي متوازن مستقر، تشيع فيه القيم الحسينية التي تقيه من شر الموجات الفكرية الساحقة التي تسعى لتدمير روحه من الدخل وتنخره بعادات خبيثة تتكئ على المادية الاستهلاكية النفعية المبيّتة.
نحن اليوم نقف في زيارة الأربعين مع زوار أبي عبد الله الحسين (ع) نخدمهم بأعيننا وقلوبنا وراحتنا وأموالنا كل حسب قدرته ولا ننتظر مقابلا سوى شفاعة الإمام الحسين (ع) وتحقيق نصرته من خلال إحياء مبادئه وقيم عاشوراء التي ثار لنشرها بين المسلمين، وكلنا أمل وتطلّع إلى أن يبادر الجميع للتمسك بهذه القيم والانتصار لنفسه وللمجتمع وللإسلام، وقبل كل شيء تحقيق نصرة الإمام الحسين عليه السلام.
أخلاقيات مدرسة عاشوراء الخالدة
الكاتبة الإعلامية إيمان كاظم من العتبة الحسينية المقدسة أجابت: لا يختلف اثنان على أهمية القدوة في نمذجة شخصية الإنسان، فعلماء النفس أكدوا على ضرورة زرع القيم والمبادئ في وقت مبكر من عمر الفرد، عن طريق استعراض هذه القيم في إطار بطل أو حدث حقيقي أو حتى مُتخيل؛ لبيان النتائج الإيجابية لهذه المبادئ.
ولعل من أبرز وأكثر المدارس أهمية عبر التاريخ التي تمنحنا مجموعة القيم والمعايير الأخلاقية هي مدرسة عاشوراء الخالدة، فهذه الواقعة وصلتنا بأمانة عن طريق الروايات والتعايش المستمر لفصولها سنويا... ويمكن أن نعتمد على كل شخصية من شخوص الطف في بناء المفاهيم الإنسانية بعيدا عن تأثيرات هوى النفس، وخصوصا في إطار العلاقات المحكومة بالمادة والمصالح.
لو أخذنا النموذج الأسمى وتحدثنا عن شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) بكل أبعادها، سوف نستنتج ونستخلص منها منهاجا أخلاقيا متكاملا لتوجيه الفرد إلى تنظيم ممارساته السلوكية كأداء شخصي (أي مع نفسه) ومع الآخرين، فضلا عن شخوص أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين نبذوا العالم المادي وسحقوا كل الفرص التي قد تُبعد عنهم حد السيف، ليس لشيء سوى لإيمانهم المطلق بالمبدأ.
والمبدأ بالنسبة لهم تجسد في شخصية قائدهم؛ ولو كان الموت على الطرف الآخر من المعادلة، وبالتالي فإننا نمتلك منهجا واضحا مرسوما بملامح عاشوراء الشاخصة لحماية المجتمع من انتشار كل الظواهر الشائنة، والتي لا تمت للإسلام بصلة، ولعل من صورها السيئة كثرة العلاقات المادية والانتهازية لأهداف دنيوية، ويشكل استثمار مدرسة عاشوراء، فرصة مجتمعية لنبذ المادية الانتهازية لنصل إلى مجتمع قائم على رسوخ قيم العدل والإنصاف ونكران الذات والإيثار، وهي قيم نجدها متوهجة في وقائع الطف كافة.
في زيارة الأربعين تتجدد مواقف الإيثار
الكاتبة الإعلامية آلاء طاهر من قسم التنمية وتطوير الموارد البشرية قالت: يستطيع أي إنسان يبحث عن القيم والاستفادة من التاريخ، أن يجد ما يريده عبر مواقف الإيثار التي تكررت في ملحمة الطف، علما أن صور ومواقف الإيثار تتصدر المواقف رغم الخصاصة، كإيثار أبي الفضل العباس أخيه الحسين (ع) على نفسه.
كذلك نجد ذلك بوضوح في مواقف الإيثار الخالدة التي قدمها الأنصار الذين لحقوا بالحسين (ع)، بلا منافع، بل على العكس من ذلك، كانت المخاطر والمشقة ترافق أصحاب الإمام الحسين (ع)، وهم يعرفون بذلك مسبقا، لكنهم تمسكوا بمبدأ الانتصار للحق، وهذا يمثل درسا للجميع بحتمية التمسك بالقيم ورفض الانتهازية وعد انتظار المغانم المادية، فهذا ليس من شيم العظماء الخالدين كأصحاب الحسين (ع).
نحن نعلم ان الحسين (ع) خرج ومعه الآلاف من المناصرين، ولكنهم تفرقوا عنه حين أدركوا أن لا منافع ولا مصالح ولا حكم ولا عطايا، إذا أولئك الذين تخلوا وانسحبوا لم تكن لديهم القيم الصحيحة، بل كانوا يرسمون للمنافع، ويُظهرون التأييد والمناصرة للإمام الحسين (ع)، لكنهم يبطنون أهدافهم الحقيقية النفعية والمادية كالفوز بالمناصب والأموال وغيرها.
إنه سفر الموت والتضحية من أجل تخليص الإسلام والمسلمين من الانحراف، وهو هدف عظيم لا يعلوه هدف، لكن أصحاب الميول المادية والنفوس الانتهازية، لم تكن لديهم قيم ولا أهداف نبيلة، لذلك في اللحظة التي عرفوا فيها أن قضية الإمام الحسين (ع) قضية مبدأ وتضحية، وتصحيح لمسار الإسلام دون منافع مادية أو سلطوية، انسحبوا فارين بأنفسهم، وهذا يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان، لهذا يجب الاستفادة من قيم عاشوراء لتنظيف المجتمع من الماديين الانتهازيين، وبنائه البناء المتين الرصين القائم على مبادئ عاشوراء.
إن الذين لم يتخلوا عن نصرة الحسين (ع)، رغم معرفتهم بالمخاطر التي تحيق بهم، هؤلاء هم أصحاب المبادئ والمواقف الثابتة، وهؤلاء ينتمون إلى مختلف الطبقات التي كانت تحت عباءة الحسين (ع)، ولم يكن هناك ما يشوبها أية منافع أو مصالح مسبقة، كالخدم والسادة والقادة وأمراء القبائل، وهذا ما نجده متأصلا في نفوس من يخدم زوار الاربعين وعلى امتداد خارطة هذا البلد العراق الذي يحتضن الزوار الكرام من كل حدب وصوب.
وهكذا تذوب كل المنافع الشخصية عبر حركة سمو للروح، فنجد أن أكثر الأشخاص حدة وتعصبا لمصالحه وتحيزه لسربه وفصيلته، استطاع خلال أيام معدودات أن يرتقي بفضائل اجتماعية وقيم عاشورائية جعلت منه إنسان آخر، هذا هو التأثير الذي نلاحظه في أيام عاشوراء على محبّي الإمام الحسين (ع) ومناصريه، لهذا يحدونا أمل كبير بزرع قيم عاشوراء وهي قيم الحسين (ع) في الإنسان والمجتمع، لتنقيته من النفعية وتحصينه بالمبدئية.
هي ليست مدرسة فحسب، بل اختبار حقيقي لصدق النوايا سواء كنت خادما أو زائرا او رفيق درب، فقد منحتني هذه الايام الثلاثة التي قطعت فيها شوطا عظيما من السير نحو معرفة النفوس الى جانب معرفة تضاريس الطريق بين النجف وكربلاء.
شاهدت أواصر صداقات طويلة تذوب تحت اقدام المسير، وكنت احدق في رحلة البصر والبصيرة فرأيت عروق الأرحام تتقطع وينزوي حنين قلوبها، بينما ترتفع همم اخرى فتتوحد نبض عروقها رغم اختلاف ألسنتها وترامي اطراف بلادها.
حقا انه القسيم الذي يظهر الحقائق فيفرق بين الحق والباطل ليكون كل ذي لب على بينة حينما يقف في هذا المحشر وهو ينادي ((ياليتنا كنا معكم)).
الاستمرار بنشر وغرس القيم الحسينية
حسن محسن شاب متخرج حديثا من الجامعة أجاب عن سؤالنا قائلا: يحدونا أمل كبير بتجديد غرس قيم الإمام الحسين عليه السلام في مجتمعنا، فنحن نحتاج اليوم إلى نهضة كبرى في القيم، لأننا نعاني من مشكلة كبيرة هي التفكير والسلوك الأناني لكثير من الناس في مجتمعنا، حتى باتت الأنانية سلوك جماعي، لا يمكن القضاء عليه إلا بنشر القيم التي ثار من أجلها مولانا الإمام الحسين عليه السلام.
في كل عاشوراء وكل زيارة أربعين، تنتعش الأخلاق والقيم، ويسودنا الأمان والاستقرار، ونعيش أياما مملوءة بالخيرات والأخلاق والسلوك الإنساني، الكل يحب الكل، الكل يضحي من أجل الكل، الكل يقدم خدماته بلا مقابل وتنتشر روح التعاون، هذه الأخلاق هي التي تبني مجتمعا عادلا، وهي القيم التي نحتاجها لأنها تنقذ الشباب والجميع من الميول المادية النفعية التي لا تقوم على الإنصاف، نسأل الله تعالى وبجاه الإمام الحسين (ع) أن يعيد علينا زيارة الأربعين ونحن نرفل بقيم عاشوراء العادلة المنصفة التي ترتفع بالكل إلى مرتبة الإنسان الحق.
اضف تعليق