كانت مسؤولية أبي الفضل العباس وإيمانه وقراره واختياره أن يذهب بهذا الطريق، وهذه حقيقة البصيرة النافذة بأن يعرف ماذا يختار، فكلنا نحتاج أن نكون أصحاب بصائر حتى نتخذ القرار الصحيح في حياتنا، فالقرار الصحيح يقودنا إلى نهاية سعيدة، وهي أن أكون حميدا عندما أموت، أن أكون صالحا...
روي عن الامام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) انه قال: (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله عليه السلام وأبلى بلاء حسنا ومضى شهيدا).
كان أبو الفضل (عليه السلام) لديه القدرة على رؤية ما لا يراه الناس، مؤمنا بنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، نافذ البصيرة وسداد الرأي، وصلب الإيمان، فالناس الذين لا يملكون رؤية وبصيرة وفهم للأمور، يصبح إيمانهم متزعزعا متصدعا، فالإنسان صاحب الإيمان القوي هو الذي يملك البصيرة ويعرف الإمام جيدا، وقد كان أبو الفضل العباس (عليه السلام) قمة في معرفة الإمام الحسين عليه السلام بأنه إمام معصوم مفترض الطاعة من قبل الله عز وجل.
وقد جاء في الزيارات الجامعة (عارف بحقكم)، (مُعْتَقِدٌ لِإِمَامَتِكُمْ مُقِرٌّ بِخِلاَفَتِكُمْ عَارِفٌ بِمَنْزِلَتِكُمْ مُوقِنٌ بِعِصْمَتِكُمْ خَاضِعٌ لِوِلاَيَتِكُمْ)، فالبصيرة هي التي تقود الإنسان إلى المعرفة، فالشخص الذي يقف هكذا موقف في يوم عاشوراء يعبر عن بصيرة عالية وكبيرة جدا، ترى وتعرف وتدرك كل الأمور الحقيقية والحقيقية في الحياة، فالبصيرة هي الطريق لليقين في مواجهة الشك.
ما نشاهده اليوم وخصوصا في عصرنا هذا من كثرة الشك والتشكيك، وضعف الإيمان في المجتمع، يعود سببه بان الناس أصبحوا يعيشون في مستنقع المادية كثيرا، وبسبب التطور التكنولوجي والمادي، سيطرت المادية على كل شيء في الحياة، لذلك أصبحت السطحية تسيطر على الحياة، وفقدت الإنسانية مواقفها الصحيحة والسليمة.
العدمية الفانية والوجود المطلق
الإنسان الذي يعيش يومه ويريد أن يأكل، ويشرب، ويلتذ فقط ويعيش باسلوب النفعية والمادية الاستهلاكية، حينئذ فإن النفعية تسجن الإنسان في عبودية مطلقة، تجعله يعتقد بأنه لا يوجد شيء آخر غير هذه اللذات التي يعيشها.
أما الإنسان الذي هو أبعد من هذا المعنى، ويفكر بان هناك اهدافا عظيمة ومسؤولية كبيرة في هذه الحياة، وهناك قيمة كبيرة للإنسان بسمو الذات، فهو سيحاول ان يكون مثل أبي الفضل العباس (عليه السلام)، يؤمن بالوجود المطلق للوظيفة والمسؤولية الشرعية، لذلك نحن في عالم اليوم نحتاج إلى أن نسير على سيرة أبي الفضل العباس (عليه السلام)، لا نفكر أن نعيش يومنا ونحمي حياتنا فحسب، من أجل دقائق ولحظات وأيام وأشهر وسنين في ظل العبودية والذل والرق المادي والعدمية الفانية. بل لابد من السير في طريق الوجود المطلق وهو الخلود بمعنى سمو الذات وارتقاء النفس وعلو الشخصية.
عزيمة وثبات
كان أبو الفضل العباس (عليه السلام) يمتلك العزيمة والثبات في يوم الطف، وكان نموذج من النماذج العلوية الكبيرة، وقد اكتسب هذه السيرة من آبائه، فقد كانت سيرته سيرة الإمام علي (عليه السلام) في كل شيء من الشجاعة، والتقوى، والإيمان، والعزيمة والثبات في وجه الطغاة، فكانت سيرته إسعاد البشرية وإنصافها، وبناء الإنسان بصورة صحيحة، كان هذا النموذج المبدئي في مقابل ذلك النموذج الانتهازي.
النموذج الأموي الذي كان يريد السلطة فقط أن يحكم الناس، وأن يستعبدهم ويسيطر عليهم، فتحولت الحياة في تلك الأيام (أيام الأمويين) إلى عبودية، ومادية ضحلة، وقدرية وجبرية، والقبول بالذل والعبودية، وهذا المنهج هو غير منهج الأنبياء (عليهم السلام)، وغير منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وغير منهج الإمام علي (عليه السلام)، وغير منهج الإمام الحسين (عليه السلام)، لذلك أبو الفضل العباس(عليه السلام) هو تجسيد للمنهج العلوي في الثورة ضد الرضوخ المادي، ورفض الرضوخ لتلك الانتهازية، التي بالنتيجة تستفز وتستخرج كل الشرور والرذائل مثل النفاق والخوف والسرقة والكذب والخيانة، فكانت معركة كبيرة من أجل صعود الإنسان أخلاقيا.
قيمة الوفاء
لماذا يحب الناس أبا الفضل العباس (عليه السلام)؟ لماذا هذا الحب الكبير الهائل في كل العالم؟ يحبونه ويعتقدون به لقيمة موقفه مع الإمام الحسين (عليه السلام)، كانت قيمة عالية تمثل الوفاء باطلاقه، وليس فقط لأنه أخيه، بل لأنه الإمام المفترض الطاعة فلذلك نحن نحتاج أن نسلك الدرب الذي سلكه أبو الفضل العباس (عليه السلام)، أن تكون لنا مواقف في الحياة، وان لا نستسلم لتلك الرذائل والشرور التي تنتشر في بعض المجتمعات، وان لا نستسلم للمصالح المؤدية للأنانية والشغف بالسلطة، واللهاث وراء الشهوات والمنافع الخاصة، وننسى المواقف الكبيرة التي يحتاجها الإنسان حتى يثبت وجوده الإنساني، ما قيمة الإنسان لو ربح كل شيء وخسر نفسه؟! وخسر وجوده ليكون عنده قصورا ولتكن عنده أموال ومليارات، ماذا يفيده لو خسر نفسه خسر جوهره، لكن أبي الفضل العباس (عليه السلام) في معركة المصالح والأخلاق ربح نفسه ربح قيمته، ولذلك يبقى خالدا في التاريخ، ولن ينساه الناس بل يستمرون في تعلم منه الخير والفضيلة والمواقف الصالحة.
الموقف السليم
عندما بادر شمر بن ذي الجوشن إلى ابن مرجانة، فأخذ منه أمانا لأبي الفضل وأخوته، وأراد إن يستميلهم ويخرجهم من معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، فقال له العباس بن علي عليهما السلام: (لَعَنَكَ اللّهُ ولَعَنَ أمانَكَ وَاللّهِ، إنَّكَ تَطلُبُ لَنَا الأَمانَ أن كُنّا بَني اُختِكَ، ولا يَأمَنُ ابنُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وآله).
هكذا كانت قيمة العباس (عليه السلام)، بهذا الموقف الكبير لذا ننصح الشباب أنه لا ينجرف وراء المصالح الآنية، وراء اللذائذ النفعية، فهذه تسقط الإنسان لا تربي الإنسان، الإنسان يتربى بالتقوى، يتربى باتخاذ الموقف السليم، واتباع القيم الأخلاقية الفاضلة، بأن نجعل أبا الفضل العباس (عليه السلام) مدرسة متكاملة لنا في حياتنا.
شجاعة العباس
عندما نتكلم عن شجاعة أبي الفضل العباس، لا نقول كم قاتل، وإنما نقول كم كان موقفه عظيما في عاشوراء؟ هذه الشجاعة أن يتخلى الإنسان عن ذاته، ويقف ذلك الموقف الكبير، هذا هو معنى الشجاعة أن يقاوم الشهوات، ويقاوم الغرائز، ويعطي لموقفه العظيم قيمة كبيرة، فلا بد ان نشجع شبابنا على هذه المواقف العظيمة، وأن يسلكوا سلوك أبي الفضل العباس (عليه السلام) في شجاعته وشجاعة اتخاذ الموقف الصحيح في الحياة، وعدم الانجراف وراء المنافع الدنيوية.
الحرية والعبودية
كان صراع الأنبياء مع الطواغيت صراع بين الحرية والعبودية، وليس صراع من اجل السلطة، وكذلك الصراع الموجود ضد أهل البيت (عليه السلام) كان صراع بين الحرية والعبودية ضد الطواغيت، الذين يريدون استعباد الناس، وكانت رسالة الأئمة عليهم السلام، هو كذلك تحرير الناس من الذل، لذلك كانت معركة الإمام الحسين (عليه السلام) معركة من أجل الحرية والكرامة وعدم القبول بالذل، (هيهات منا الذلة) فأسوأ شيء في حياة الإنسان أن يعيش ذليلا منكسرا، هذا معناه أن الإنسان لا شيء بلا هوية بلا وجود فالإنسان قيمته بحريته وكرامته.
ان السلطة الأموية كانت تنشر ثقافة القدرية والجبرية بين الناس، وبالنتيجة القبول بالأمر الواقع، وهذه مشكلة خطيرة تسيطر على واقعنا اليوم، لذلك باستمرار نحتاج إلى النهضة الحسينية، وإلى نموذج أبي الفضل العباس (عليه السلام) من أجل بناء الحرية وسلوك الكرامة عند الإنسان، وأن لا تبقى الشعوب خانعة ذليلة تقبل بالذل وترضخ للاستبداد من قبل الآخرين، فالإنسان الذي يعيش ذليلا وعبدا لايعيش، يعيش وهو مقهور ومن ثم يموت وهو عبد، فلا بد من الإنسان أن يستثمر هذا الوجود، ويتنعم بهذا الوجود عن طريق الحرية التي ذكرها أهل البيت عليهم السلام في رواياتهم وجسدها أبو الفضل الله عباس (عليه السلام).
قوة الاختيار
قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان عمنا العباس نافذ البصيرة صلب الإيمان، هذا الوصف يجمع كل الأشياء الخيرة والجيدة، إيمانا بأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، بأنه إمام معصوم مفترض الطاعة من قبل الله، وإيمانا برسالة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإيمانه بأخيه فالأخوة فضيلة عظيمة فهي أساس بناء المجتمعات الصالحة، ولو فرضنا مجتمع بلا إخوة سيكون هذا المجتمع متفكك ومتنازع، فأبو الفضل العباس (عليه السلام) قدم تضحية كبيرة من أجل تحقيق مفهوم الأخوة هذا من جانب.
من جانب أخر أوضح لنا مفهوم الإيمان بالإمام والقائد الصالح، الإمام الذي يجب ان تذهب ورائه الناس، وليس الحاكم الطاغية الفاسد الذي يسترق الناس ويستعبدهم، فكانت مسؤولية أبي الفضل العباس (عليه السلام) وإيمانه وقراره واختياره أن يذهب بهذا الطريق، وهذه حقيقة البصيرة النافذة بأن يعرف ماذا يختار، فكلنا نحتاج أن نكون أصحاب بصائر حتى نتخذ القرار الصحيح في حياتنا، فالقرار الصحيح يقودنا إلى نهاية سعيدة، وهي أن أكون حميدا عندما أموت، أن أكون صالحا، أن تكون عواقب أموري خيرا، وليس شخصا يلعنه الناس وليس شخصا ضيع كل شيء واهدر حياته عبثا، أبو الفضل العباس (عليه السلام) ربح كل شيء باتخاذ القرار الصحيح.
الرابحون والخاسرون
من الأشخاص الذين أصبحوا نموذجا في التاريخ يقتدى بهم هو أبو الفضل العباس (عليه السلام) كان أشجعهم ربح وانتصر لأن الانتصار كان في قوة المعنى وقوة المسؤولية وقوة الحرية، وأهم من ذلك قوة الاختيار، ماذا تختار في حياتك؟ قوة اختيارك في الحياة هي التي تحدد مستوى قيمتك في الحياة. تلك القيمة الكبيرة لأبي الفضل العباس (عليه السلام) وهو ربح بهذا المعنى وانتصر، وانهزم الآخرون الذين عاشوا مدة من الزمن وحكموا ثلاثين سنة، او أربعين سنة ماذا ربحوا؟ لم يربحوا شيء لم يقدموا شيئا، لم تكن عندهم مواقف مشرفة، عاشوا الانتهازية والنفاق واستعباد الناس وإذلالهم وتعذيبهم، فالشخص الذي يظلم الناس هو منهزم، وأما الإنسان الحقيقي هو الذي ينتصر بانتصاره لحقوق الناس.
التربية المعتدلة
أبو الفضل العباس (عليه السلام) لم يكن مترددا في موقفه كان نافذ البصيرة، صلب الايمان كان موقفه حاسما جدا في حياته، وهذا نتيجة لتراكم كبير وعظيم في التربية، هذه الشخصية تربت على القيم، والأخلاق، والفضائل، والإيمان بالإمامة، والإيمان بالرسالة المحمدية والعلوية، هذا التراكم يجعل من الشخصية صلبة، وهذا من اعظم الدروس التي نتعلمها من أبي الفضل عباس (عليه السلام) أن نربي أبناءنا منذ الصغر على المواقف الصحيحة والسليمة، لا نربي أولادنا على الماديات، على اللذائذ والنفعيات، بعض العوائل يربون أولادهم على الملابس الجيدة، والأكل الطيب وعلى الدلال الزائد، وهذا يصنع منه شخصية ضعيفة، نعم التربية المعتدلة هي التربية السليمة في منهج أهل البيت (عليهم السلام)، تربية باللين والإقناع والاقتناع وبناء حرية الاختيار والعلم والمعرفة، هذه التربية تصنع أشخاصا عظماء مثل أبي الفضل العباس (عليه السلام).
فأبو الفضل العباس (عليه السلام) هو نتاج تربية علوية، حسنية، وحسينية، وتربية ام البنين (عليها السلام)، هذه المرأة العظيمة الكبيرة التي علينا معرفة قيمتها وتاريخها وحياتها، ونتعلم منها كيف نربي أولادنا تربية صالحة على منهج القيم والمواقف المسؤولية.
الاقتداء بالنموذج الصالح
لا يمكن أن نقول أنه يمكن أن نصل إلى نموذج كشخصية ابي الفضل العباس (عليه السلام)، لكن لا بد ان نرتقي نحوه ونطبق ما هو ممكن من هذا النموذج الصالح، ونحن بحاجة الى هذا النموذج ولأننا نحب أبنائنا فلا بد ان نربيهم على نموذج يصح الاقتداء به، نموذج يجعل حياتهم صالحة سعيدة في كلا الدارين، وننبذ النماذج السيئة لأنها مدمرة تصنع شخصا ضعيف الشخصية، غير قادر على تميز الحق من الباطل، والصحيح من الخطأ والفضيلة من الرذيلة.
شخص مستقل وليس تابعا
هكذا شخصية تتربى في هكذا بيئة من الأم والأب والأخوة، تعلم ما لها وما عليها من واجبات، فبصيرة أبي الفضل العباس (عليه السلام) هي التي جعلت منه يتبع الإمام المعصوم (عليه السلام)، وهذه وظيفة شرعية وظيفة إيمانية واعتقادا منه بإمامة الإمام الحسين (عليه السلام)، أيضا كان مستقلا في مواقفه، فعندما نقول مستقلا يعني أنه كان حرا مختارا صاحب مسؤولية، فلا بد أن نربي أولادنا على هذه الاستقلالية أن يكون شخصا مستقلا قويا، وان لا يكون شخصية تابعة، وإنما شخصية قوية مستقلة قادرا على اتخاذ المواقف الشجاعة في حياته، لذلك هذه الرواية التي قالها الإمام الصادق عليه السلام كان عمنا العباس نافذ البصيرة وصلب الإيمان، يعني موقف نابع من شخصية لديها رؤية في الحياة.
ركن من أركانها
أحد أعمدة عاشوراء وركن من أركانها كان أبو الفضل العباس (عليه السلام) فلا يمكن أن نتصور عاشوراء من دونه، فالسلوكيات اليومية والأحداث اليومية تبين معدن الإنسان، وقد تبين لنا ما هو معدن أبي الفضل العباس (عليه السلام) من صلابة الإيمان، كان له مواقف قبل يوم الطف إلا أن موقفه الأعظم كان يوم عاشوراء حتى يقول بحقه الامام علي بن الحسين (عليه السلام): (رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى وفدا أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه. فأبدله الله عز وجل منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب عليه السلام. وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)، فخلود أبي الفضل العباس (عليه السلام) هو استمرار للعظمة التاريخية التي تسمى عاشوراء.
كما ان مقام أبي الفضل العباس (عليه السلام) عند الإمام الحسين (عليه السلام) كبير جدا، فعندما أصيب أبا الفضل العباس (عليه السلام) قال الإمام الحسين (عليه السلام) الآن انكسر ظهري.
شاءت مشيئة الله سبحانه وتعالى تخليد هذه الصفوة على مر العصور وخصوصا ابي الفضل العباس، بأنهم خير نموذج يقتدى بهم، لو أرادت البشرية أن تعيش الصلاح والفلاح في حياتها.
اضف تعليق