الصبر الذي استحال قوة قاهرة عند المسلمين الأوائل الى جانب رسول الله، والى عهد قريب من الامام الحسين، وايضاً عند المؤمنين من اتباع الانبياء والمرسلين في التاريخ، هو الطريق الرابط بين الانسان ذو القدرات المحدودة، وبين ربه، ذو القدرات اللامحدودة، وفي واقعة الطف تجلّت...
"هوّن ما نزل بيّ إنه بعين الله"
الامام الحسين لدى تلقيه دم ابنه الرضيع بيده
للصبر تطبيقات عدّة في حياة الانسان من شأنها تقويم جوانب مهمة من السلوك، وقد حددها أمير المؤمنين، عليه السلام، "في ثلاث: الصبر على المصيبة، والصبر على الطاعة، والصبر على المعصية"، وفي يوم عاشوراء تجلّت هذه القيمة العظيمة بأروع صورها في مواقف وتحركات الامام الحسين وأهل بيته في تلك الملحمة التاريخية الخالدة.
هل الصبر مدعاة للضعف؟
في طريق البحث عن مصادر القوة للانسان، توصل بعض المفكرين في العالم الى أن الأخلاق من وسائل التغرير والتخدير تستخدمها الطبقة المترفة والحكام لاستغلال مشاعر الفقراء والمعدمين لضمان سكوتهم، ومن المفردات الاخلاقية؛ الصبر، يقولون: إن هذه المفردة الاخلاقية تستخدم وسيلة لاسكات أصوات المعذبين تحت سطوة الفقر والحرمان والجوع.
هذا التصور تسرّب الى عقول بعض ابناء الشريحة الفقيرة في كل مكان، ومن ثم الى مساحة واسعة من الشعوب، والى اليوم، فعندما تتقدم طلائع التغيير بالقوة المسلحة، او بالوسائل السلمية، تنظر الى هذه المفردة بعين الريبة، وأنها ربما تكون من أعوان الاستعمار الخارجي او الاستكبار الداخلي الداعية الى الهدوء والسكينة! لذا لابد من استبدال المفردة بما يدعو الى الإقدام والإسراع لمواجهة التحديات، وعدم التأنّي وإعطاء الفرصة للطرف المقابل.
لا نخوض في نقاش حول صحة او سقم تلك التصورات، ولا في مآلات الشعوب التي ركبت أمواج الاحداث السياسية في البلاد العربية والاسلامية طيلة عقود من الزمن، بقدر ما يهمنّا استلهام درس بليغ من دروس لا تُعد من ملحمة مايزال يعظمها التاريخ والانسانية جرت في أرض كربلاء قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمن، كان بطلها الإمام الحسين بن علي، سبط رسول الله، واجه تحديات كبيرة، ليس بقوة السلاح، ولا بقوة المال، وكان يمتلكهما، وإنما بقوة الصبر.
يقول أحد الرواة ممن كانوا في جيش عمر بن سعد: "فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته واصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله وان كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المِعزى اذا اشتدّ فيها الأسد الهصور... ثم يرجع الى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
إنه الصبر الرافض للأمر الواقع، وللاستسلام للذلّ والهوان، ولسياسات الاستبداد والقمع والتضليل، والصبر القائم على التخطيط الدقيق، وليس التنكّر للتأنّي والحكمة بالجزع والانهيار النفسي، او الانقياد لردود الفعل العنيفة، وابرزها الانتقام، فكل هذه الخطوات لا تؤدي باصحابها إلا الى الدواهي والهزائم، والامثلة من ذلك لا تُعد من التاريخ القديم والحديث.
مصدر القوة القاهرة
أكمل الامام الحسين، عليه السلام، كل شيء لخوض المعركة يوم عاشوراء، من تنظيم الجيش، وحفر الخندق لحماية الجبهة الخلفية للخيام، وتحديد من يخرج للقتال أولاً؛ وهم الاصحاب ثم ابناؤه وأهل بيته، وحتى هيأ النساء والاطفال نفسياً لمواجهة محنة حرق الخيام، والسلب و السبي بعد استشهاده، وكانت في مقدمة المخاطبين؛ أخته العقيلة زينب، ثم أوصاهم بالصبر الاستقامة على الطريق، وأن يتوكلوا على الله –تعالى- فهو حسبهم.
جاء في رواية عن الامام الصادق، عن أبيه الباقر، عليهما السلام، أنه لما احتدمت المعركة بين جيش الامام وجيش عمر بن سعد، "أنزل الله النصر حتى رفرف على رأس الحسين عليه السلام ثم خير بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى، فاختار لقاء الله تعالى"، (بحار الانوار- ج45- ص12)، فربما كان الله –تعالى- ينصر الامام الحسين على جيش عمر بن سعد، وعلى أهل الكوفة بأجمعهم، وعلى أكبر قوة عسكرية آنذاك، بيد أن طموح الامام الحسين، لم تكن عسكرية ولا سياسية بأن يدخل الكوفة فاتحاً منتصراً، معه لواء الحق، وهو ابن بنت رسول الله، إنما اراد أن يواجه تقلبات المجتمع واسقاطات النفس البشرية لإصلاحها من الجذور رغم قساوتها، وهذا يحتاج الى قدر كبير جداً من الصبر، ربما لا يتوفر إلا لرجل مثل الامام الحسين، عليه السلام، في تلك اللحظة الحاسمة.
من أين للإمام الحسين هذا القدر العظيم من الصبر؟!
إنه السؤال الجدير بنا طرحه لنعرف الوجه الحقيقي للصبر، وكيف استحال يوم عاشوراء الى قوة قاهرة حطمت السيوف والرماح، وهزمت، ليس فقط تلك الجموع المغرر بها والمخدوعة من أهل الكوفة، وإنما قوة الدولة الأموية برمتها، ومن ثمّ كل قوة جاءت في التاريخ لتقف بوجه قيم ومبادئ النهضة الحسينية ليبقى الحسين منتصراً طول الزمن؟
إنه القرآن الكريم الذي نشأ عليه الامام الحسين واستلهم منه الحِكَم والدروس الرسالية، فقد قرأ، عليه السلام، الآيات الكريمة التي تروي تجارب الأمم المنتصرة تحت لواء الرسالة السماوية من خلال الصبر لا غير، فالمؤمنين برسالات السماء كانوا الأقلية مع الانبياء والمرسلين في مواجهة الطغاة، فلم يأت في القرآن الكريم وسيلة يعطيها الله لهم سوى الصبر، والمثال الأقرب لنا؛ المسلمون الأوائل في صدر الاسلام ممن خاضوا المعارك ضد الكفار والمشركين، ومنها؛ معركة بدر الظافرة التي بشّرتهم السماء بمفتاح النصر بالصبر: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}، (سورة الانفال، الآية 65)، وثمة آيات كريمة اخرى لمن يراجع القرآن الكريم تحكم الربط بين الصبر وبين انتصار أقوام آمنوا بالانبياء والمرسلين، فبقدر الصبر كان النصر، كما في قصة طالوت الملك وجالوت الطاغية الكافر، فانتصر بنو اسرائيل على جيش جالوت رغم قلة عددهم، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، (سورة البقرة، الآية249).
الصبر الذي استحال قوة قاهرة عند المسلمين الأوائل الى جانب رسول الله، والى عهد قريب من الامام الحسين، وايضاً عند المؤمنين من اتباع الانبياء والمرسلين في التاريخ، هو الطريق الرابط بين الانسان ذو القدرات المحدودة، وبين ربه، ذو القدرات اللامحدودة، وفي واقعة الطف تجلّت مصاديق الإيمان بأروع صورها في شخص الإمام الحسين، وابنائه واصحابه، وحتى النسوة والفتيات في الخيام، وإلا ما الذي يجعل زوجة شابة لم يمض على عرسها سوى أيام أن تعبئ زوجها "العريس" لأن يقتل في سبيل قيم السماء بين يدي الامام الحسين، وكذا كان موقف أمه، علماً أن العائلة كلها حديثة العهد بالاسلام، فقد كان وهب مسيحياً قبل ان يستبصر ويسجل اسمه في قائمة الخالدين؟ ونفس موقف تلك المرأة التي ترمّلت للتوّ بزوجها، فأخذت ابنها الشاب الصغير والبسته لامة الحرب وارسلته الى الامام الحسين ليقاتل دونه، والقصة معروفة، وهو صاحب الابيات: "أميري حسينٌ"؟
عندما انهمرت الدماء من عنق رضيعه بذلك السهم رداً على طلبه إراوئه شربة ماء، أول كلمة نطق بها الامام الحسين: "هوّن ما نزل بيّ إنه بعين الله"، هذا الصبر الذي يقطع الانسان عن كل اسباب القوة المادية للرد او الانتقام، ليبقى فعل الخطأ والباطل والانحراف دون رد مماثل يوسع من الدائرة السوداء في ساحة المواجهة، وليعرف الناس على مر التاريخ ما هي القسوة التي قتل بها الرضيع؟ وما هي صورتها؟ بل كيف يكون الانسان قاسياً فيقدم على القتل والذبح بدم بارد؟ كما يعرف الناس والعالم من هو صاحب الحق ولو بعد حين.
اضف تعليق