للنَّهضةِ شروطٌ وأَدواتٌ بغضِّ النَّظر عن كونِها على حقٍّ أَم لا، فإِذا أَخذت بها الأُمَّة نجحت نهضتَها وإِلَّا فشَلت. ومن أَبرز شروطها هو إِستعداد الأُمَّة للتَّضحيةِ، من كلٍّ حسبَ قُدراتهِ ومَوقعهِ وحجمِ دورهِ في النَّهضة، فإِذا استعدَّ المُجتمع كان بها وإِلَّا فالنُّهوضُ حُلُمٌ لن يتحقَّق...
للنَّهضةِ شروطٌ وأَدواتٌ بغضِّ النَّظر عن كونِها على حقٍّ أَم لا، فإِذا أَخذت بها الأُمَّة نجحت نهضتَها وإِلَّا فشَلت.
ومن أَبرز شروطها هو إِستعداد الأُمَّة للتَّضحيةِ، من كلٍّ حسبَ قُدراتهِ ومَوقعهِ وحجمِ دورهِ في النَّهضة، فإِذا استعدَّ المُجتمع كان بها وإِلَّا فالنُّهوضُ حُلُمٌ لن يتحقَّق!.
وفي مُقارنةٍ رائعةٍ يسوقُها لنا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بهذا الصَّدد، يشرح لنا كيفَ أَنَّ الأُمَّة في عهدِ رسولِ الله (ص) حقَّقت نهضتها عندما استعدَّت للتَّضحيةِ وأَنَّ نفس هذهِ الأُمَّة فشلت في تحقيقِ نهضتها في عهدهِ (ع) عندما نكصَت ورفضت التَّضحية على الرَّغمِ من أَنَّهُ الإِمتداد الطَّبيعي للنَّهضةِ الأُولى وإِنَّ قائِدَي النَّهضَتَينِ على الحقِّ المُطلق وهو واحدٌ لا ينقسمُ على أَيِّ رقمٍ.
في المرَّةِ الأُولى أَخذت الأُمَّة بشروط النَّهضة [التَّضحية أَوَّلاً] فتحقَّق الهدَف، وفي الثَّانية لم تأخُذ بها ففشلت.
يقولُ (ع) مُقارِناً {وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(ص) نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الاْلَمِ، وَجِدّاً عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الاِْسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً!}.
ومن كلام لهُ (ع) يوبِّخُ البُخلاء بالمالِ والنَّفس {فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلْتموهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا، تَكْرُمُونَ بِاللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلاَ تُكْرِمُونَ اللهَ فِي عِبَادِهِ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَصْلِ إِخْوَانِكُمْ!}.
مربطُ الفرس في النَّصِّ هو قولهُ (ع) {وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ}.
فالعلامةُ الفرقةُ بينَ الزَّمَنينِ ليس في نوعيَّة القيادةِ [فكلاهُما واحد {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}] ولا في طبيعةِ الهدف [الحق والعدل والإِنصاف] وإِنَّما في الشُّروط، فبينما أَخذت بها الأُمَّة [البذل والتَّضحية] في المرَّة الأُولى فتحقَّق الهدف، لم تأخُذ بها في المرَّة الثَّانية ففشلت.
وكانَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) قد أَشارَ عدَّة مرَّات إِلى عدمِ أَخذ الأُمَّة بشروط النَّهضةِ في خُطبٍ جمَّة منها {أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْـمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!.
يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُكُمٌ ذَوُو كَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الاْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيَما إخالُ؛ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَحَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِب انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً}.
وفي أُخرى {يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الاَْطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ مَعْرِفَةً ـ وَاللهِ ـ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً.
قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ.
للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ! وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ!.
وتكرَّر المشهدُ في الكوفةِ!.
تجارِبُ النَّهضةِ عِلمٌ مُستحدثٌ
كلُّ المُجتمع في كلِّ الأَوقات يتمنَّى أَن يتغيَّر الوضع نحو الأَفضل عندما يعتلي السُّلطة حاكمٌ ظالمٌ فاسدٌ مُستبدٌّ.
ولكن قليلُون هم المُستعدُّون لدفعِ الثَّمنِ المطلوبِ لهذا التَّغييرِ والتَّضحيةِ من أَجل الإِصلاح، فأَغلب المُجتمع يكتفي بـ [النَّقنقةِ] فقط فيرفع صوتهُ بالإِصلاح ما زال ذلكَ في سلامةٍ من دُنياهُ! ولا يكلِّفهُ شيئاً! ولكن عندما يجدُّ الجدِّ ويبدأ العمل تنقلب الأَكثريَّة وتولِّي هاربةً من الإِستحقاقات بأَلفِ عُذرٍ ومليون حُجَّة منها قولهُم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}.
وللتَّذكيرِ؛ فإِنَّ المقصود بالمُجتمع هم كُلُّ الطَّبقاتِ والشَّرائح، فالإِنقلابُ لا تختصُّ بهِ فئةُ [الهمج الرُّعاع] أَو [العوام] كما يردُ ذكرهُم في الرَّسائل العمليَّةِ لـ [الفُقهاء والمراجع].
لنضربَ ثلاثةَ أَمثلةٍ على ذلكَ، مثالان ساقهُما القرآن الكريم ومثالٌ ساقهُ لنا أَميرُ المُؤمنينَ(ع)؛
المثالُ القُرآني الأَوَّل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
المثالُ القُرآني الثَّاني {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ* قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ* قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
أَمَّا المثالُ الثَّالث [العلوي] {أَيُّهَا النَّاسُ، الْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاَْعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ المَطُولِ، لاَ يَمنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ! أَيَّ دَار بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ، وَمَعَ أَىِّ إِمَام بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ المَغْرُورُ وَاللهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمْنْ فَازَبِكُمْ فَازَ بَالسَّهْمِ الاْخْيَبِ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِل.
أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم.
مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟!}.
القواسمُ المُشتركةِ في الحالاتِ الثَّلاث وما يشبهها هو؛
- يعرفونَ أَنَّ التَّغيير والإِصلاح ضروريُّ بل واجبٌ.
- يُتاجرُون بشعاراتِ الإِصلاح حتى يظنُّ السَّامع أَنَّهم أَوَّل مَن يرمونَ أَنفسهُم بالنَّارِ إِذا تطلَّب الأَمرُ [المشرُوع الإِصلاحي] ذلكَ.
صوتهُم الأَعلى وصراخهُم الأَشد!.
- هُم أَوَّل من يتهرَّب من المسؤُوليَّة فلا يُبدي الواحد منهم أَيَّ استعدادٍ للتَّضحيةِ بأَبسط الأَشياء إِذا تطلَّب المشروعُ منهُ ذلكَ.
يُحرِّضونَ على الإِصلاحِ بأَلسنتهِم، وفيما بعد يُعرقلونهُ بأَيديهِم وأَرجلهِم!.
وتكرَّر المشهدُ في الكوفةِ!.
اضف تعليق