واقعة الطف كانت انحرافاً خطيراً وانتهاكاً جسيماً لحدود الله، والحاكم الأموي حاول أن يحرف الحق عن محله ويبرر لنفسه الأفعال الجرمية التي اقترفت ليس بحق الإمام الحسين وأهل بيته فحسب بل بحق القرآن والسنة والدين ككل، فلا يمكن أن تبرر أفعال السلطة التي دأبت على الإفساد...
نظم المشرع الإسلامي كل مناحي الحياة ومنها ما يتعلق بحالة السلم والحرب، ومن الواضح حرص المشرع على إباحة الحرب في أضيق نطاق ممكن، بعد أن وضعت القواعد المنظمة لهذه الحالة المؤقتة والاستثنائية في حياة المسلمين بشكل دقيق سواء فيما ورد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، ولتكن أفعال الإنسان المسلم صحيحة يجب أن تصادف أساساً شرعياً محدداً، وإلا انقلبت إلى جرائم يفرض على من إقترفها العقاب، فالله سبحانه وتعالى حبب الجهاد في القرآن في آيات عدة كان ولا يزال يفهم منها القتال دفاعاً عن النفس والمال والحرمات فالاعتداء والعدوان ليس من شريعة الله في شيء قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
والخطاب موجه للمؤمنين بضرورة الجهاد والصبر على الجهاد بيد إن ما تقدم محكوم بـ(قاعدة تحريم العدوان) إذ شرع الجهاد لرد العدوان والانتصار للمظلوم وحماية الحقوق والحريات من الانتهاك، لكن أطماع السلطة والانحرافات الدينية والأخلاقية التي شهدها الحكم الأموي المفتقر أصلاً للشرعية في الوجود والبقاء أصابت ثوابت أحكام الإسلام بمقتل، إذ اختلط الأمر على البعض حتى صار لا يميز بين الحق والباطل، ولا بين الجهاد الذي أقر لرد العدوان وحماية الحرمات، وبين العدوان الذي يشكل في نظر الإسلام أخطر جريمة قال تعالى (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)، فمما لاشك فيه إن واقعة الطف كانت انحرافاً خطيراً وانتهاكاً جسيماً لحدود الله، والحاكم الأموي حاول أن يحرف الحق عن محله ويبرر لنفسه الأفعال الجرمية التي اقترفت ليس بحق الإمام الحسين وأهل بيته فحسب بل بحق القرآن والسنة والدين ككل، فلا يمكن أن تبرر أفعال السلطة التي دأبت على الإفساد في الأرض بدل إصلاحها وعلى قتل النفس التي حرم الله بغير الحق وسلب الناس أشياءهم بلا مسوغ شرعي.
لذا استنهض الإمام الحسين الأمة وذكرهم بالتكليف الشرعي المتمثل برد العدوان على المعتدي أياً كانت هويته والتصدي للانحراف الذي شهدته السلطة الحاكمة وجاء بحديث للإمام قوله (ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحرمة) وكل صفة من هذه الصفات تحرم على الفرد المسلم العادي ويستحق من أجلها إقامة الحد بالقتل أو الجلد فما بالك بحاكم يحكم البلاد الإسلامية من شرقها إلى غربها.
وحين ننظر بعين فاحصة لما حصل وأثناء وبعد واقعة الطف يمكننا القول إنها امتداد للنزاعات الوطنية التي شهدتها الدولة الإسلامية بعد رحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد بدأت مع واقعة الطف مرحلة جديدة من معارضة الحكم الجائر والمطالبة المسلحة بالإصلاح حيث توالت الثورات على الدولة المتهالكة كثورة التوابين والمختار الثقفي وزيد الشهيد وغيرها وصولا لانهيار الدولة الأموية وزوال حكومتها، وكل الأمثلة المتقدمة إنما تعد نمطا من أنماط الحروب الأهلية ولكون هذه الحروب بين معسكرين من المسلمين فيحتم على الآخرين ان يكونوا مصداق لقوله تعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرا) إذ ان الآية صريحة في حث للمؤمنين على نصرة الضعفاء بما ان الحاكم مستبد وظالم وقد وصل إلى السلطة بطرق غير مشروعة فلاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، إذا خالف دستور الإسلام المتمثل بالقرآن الكريم ومنهاجه القويم المتمثل بالسنة المطهرة للنبي الكريم وأهل بيته فمن المخالفات التي ارتكبت من الحكومة في واقعة الطف وهي تمثل اعتداء لا يمكن بحال من الأحوال ان يكون له مسوغأ وأساس في القواعد الإسلامية المنظمة لحالة الحرب ومنها ما يأتي:
1- تحريم قتل المدنيين والاعتداء عليهم:
حيث يفترض أن توجه الأعمال القتالية للمقاتلين في ساحة المعركة فحسب حيث ينهى القرآن الحكيم بنص صريح عن العدوان على المدنيين بقوله تعالى (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)، ومن هذا المبدأ القرآني يمكننا أن نحدد الفئات التي يحرم الاعتداء عليهم فقد ورد في الذكر الحكيم "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" ونهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أي عدوان على النساء والأطفال بل وحتى الشجر وغيره إذ قال فيما قال "ولا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا" والنصوص المتقدمة صريحة في تجريم العدوان على المدنيين فلا حرب شاملة في الإسلام ولا قتل بلا مسوغ شرعي، وفي واقعة الطف قتل عددكبير من المدنيين منهم الأطفال الرضع والنساء والمرضى وما ذلك إلا جريمة عدوان على حدود الله وشرعه المقدس علاوة على ما اقترفته الجيوش الأموية من جريمة كبرى بحق شخص الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الذين لم يبدأوا بقتال.
2- حماية الأسرى ومنع العدوان عليهم:
إذ تواترت الأدلة الشرعية على حرمة الاعتداء على الأسرى في الإسلام قال تعالى "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" ودلت السيرة العطرة للرسول الأكرم على حسن التعامل مع الأسرى فقد أمر النبي بعد معركة بدر باحتجاز الأسرى بلا قيود أو ما شاكل وأمر بالإحسان إليهم ووعد بإطلاق سراحهم إن قاموا بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وما حصل في واقعة الطف كان العكس تماما إذ جرى العدوان على الأسرى وحملهم على رواحل غير معدة للسفر البعيد لمسافات كبيرة جدا حتى دمشق في سوريا بدون مراعاة لحرمتهم الإنسانية أو الإسلامية وقربهم من الرسول الأكرم أيضاً، وجرى احتجازهم في أماكن غير مهيأة ما يشكل جريمة عدوان على التعاليم الإسلامية السمحاء في إظهار الرحمة والرأفة مع الأسرى والمحتجزين والضعفاء.
3- منع الاعتداء غير المبرر:
فقد بين المشرع الإسلامي لاسيما في سنة الرسول الكريم إن التمثيل بالجثث بعد القتل محرم شرعا إذ ورد في بعض وصايا النبي الأكرم لقادة الجند "ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ" وفي مورد أخر يقول "ولا تغلوا و لا تغدروا و لا تمثلوا و لا تقتلوا وليداً" ونهى النبي أيضاً في موارد أخرى عن التمثيل بالجثث أو الإجهاز على الجرحى والأسرى وما تقطيع الجثث وفصل الرؤوس وسرقة ما عليها من لباس إلا جريمة انتهاك حرمة الجثث في الإسلام، وما حصل في واقعة الطف كان مخالفة من النوع المركب حيث تم الاعتداء والتمثيل بالجثث الطاهرة وتركها بلا دفن رغم ان الجيش الأموي قام بدفن جثث قتلاهم، بل وانهم قاموا بدفن جثة الحر الرياحي وهو من أنصار الحسين عليه السلام بسبب انتماءه القبلي لهم، ما يدل على تأصل العنصرية والعصبية القبلية عندهم وتقديمها على الدين وما يأمر من إحترام لجثة المسلم المتوفى.
4- منع استخدام الأسلحة متعدية الأثر:
أي تلك الأسلحة التي لا يمكن التكهن بتأثيرها كالمنجنيق أو السهام النارية أو الحرق بالنار وغيرها ومصداق ما تقدم قوله تعالى "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" بينما أقدم الجيش الأموي على حرق الخيام وإرعاب النساء والأطفال ورمي السهام بشكل عشوائي فأصابت أهل بيت الإمام الحسين وتم قطع الماء عنهم لمدة ثلاثة ما يدل على تجرد الجهة المقابلة من الرحمة والإنسانية.
فالحرب في الإسلام كما هي اليوم لها مبادئ لا يمكن تجاوزها كونها تمثل الحد بين الجائز والمحرم وأهم هذه المبادئ:
أ- مبدأ الإنسانية في التعامل:
فما ينتج عن الحرب بالعادة إلا الفظائع بسبب القتل والإيذاء من جرح وأمراض وما شاكل ذلك لهذا يجب احترام الآخرين ومعاملتهم بإنسانية خلال وبعد النزاع المسلح والأصل الشرعي لهذه المعاملة الإنسانية قوله تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" وقول أمير المؤمنين علي عليه السلام لمالك الأشتر "الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، ما يعني عدم التمييز وضرورة التعامل الإنساني من هذا المنطلق مع الجميع وتحريم العدوان لاسيما على المدنيين ولو كانوا مخالفين للمسلم بالدين أو العقيدة فما بالك إن كانوا مسلمين، بل ومن ذوي القربى لنبي الإسلام وأهل بيته وخاصته.
ب- تحريم البدء بالقتال غير المشروع:
فالقتال المشروع هو القتال لدفع الصائل فحسب، وان كان بالأصل كره كما عبر عنه القرآن الكريم وبالتأكيد كل حاكم لاسيما حاكم الجور يسعى إلى فرض سلطته ولو بالحرب والقتال لذا الإسلام وضع قاعدة عامة ان السلم هو الأصل قال تعالى "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فالسلم والسلام وعدم البدء بالقتال مبدأ إسلامي راسخ ولهذا منع الإمام الحسين أصحابه من مباشرة القتال وخطب بالجيش الأموي غير مرة يدعوهم إلى الرشد ونبذ العنف ومغادرة معسكر الجهل والظلم والالتحاق بمعسكر العدل والإنصاف.
ج- ضرورة التناسب:
من مقتضيات الحرب في الإسلام التناسب في القوة العسكرية والرد العسكري في مواجهة الأعداء نعم حرص القران على ان يأمر المسلمين بإعداد ما استطاعوا من قوة لمواجهة الكفار والمشركين "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" لكن هذه القوة التي يريدها القرآن للردع وليس للعدوان قال تعالى "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، وما حصل في عاشوراء كان محض اعتداء على أناس سلكوا طريق الإصلاح وطالبوا بالعدل والإنصاف.
اضف تعليق