فإن إحياء ذكرى الامام الحسين (عليه السَّلام) إنما هو إحياء لقضية الإسلام والأمة، وإحياء لذكرى كل شهيد، وانتصار لقضية كل مظلوم. وعليه؛ حين يحل شهر محرم من كل عام يبرز الحزن المكنون في الصدور، وتتشح المدن بالسواد، ويعيش الناس أجواء حزن، يعبر عنها كل فرد...
يُعد شهر محرم أحد الأشهر الحرم الأربعة عند المسلمين، وهن: رجب، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. قال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ، وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وكانت الجاهلية قبل الإسلام تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ.
لكن الأقدار شاءت أن لا يكون شهر محرم من أشهر الحرم الأربعة فقط، حيث لا يجوز فيه الظلم والاعتداء والاقتتال وحسب، بل أضحى عند طائفة واسعة من المسلمين شهر حزن وألم وبكاء، لاسيما في العاشر منه. ففي العاشر من هذا الشهر، سنة (61 ه) جرت معركة من أعظم المعارك بين الكفر والايمان، بين الظلام والنور، بين الحق والباطل، وانتهت بأعظم مأساة عرفها تاريخ البشرية؛ فقد استشهد فيها الإمام الحسين أبن بنت رسول الله (ص) وأهل بيته، وحُملت رؤوسهم على الرماح، وسُبيت نساؤهم وأطفالهم من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى بلاد الشام. فعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنه قال: (إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب والبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فلبيك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام)
ولا شك أن تحول شهر محرم إلى يوم حزن وبكاء وألم لإعداد كبيرة من المسلمين، تحديدا أبناء الطائفة الشيعية كان له من الأسباب والمبررات الكثيرة التي دعت إلى إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السَّلام) سنويا، ولعل من بين هذه الأسباب هو المنزلة العظيمة التي كان يحظى بها الإمام الحسين (عليه السلام) بين المسلمين، من حيث كونه أبن بنت النبي (ص) وهو خامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وأنه كان امتداد لرسول الله، وامتداد لإحياء رسالته السماوية، فعن الرسول الأكرم محمد(ص) أنه قال (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً) أي إن الحسين عليه السلام هو امتداد لدين الله وشريعته، ورسالة الحسين هي امتداد لرسالة السماء، رسالة نبي الرحمة. وعليه؛ فهو ليس كغيره من الشهداء، حيث أن منزلته أرفع بكثير عن منزلة سائر الشهداء. وأنه لم يكتف بمواجهة الحاكم الطاغي والتضحية بنفسه الغالية، بل واجه الطغيان كله بنفسه وأسرته الكريمة، فضحى بها وبأولاده وأصحابه من أجل ذلك.
كما أنه اُستشهد الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه من أجل دين الإسلام، وصلاح الأمة، وهذا هو الهدف الذي أشار إليه الإمام الحسين، حين عزم على الخروج إلى العراق قال: (والله إني لم أخرج أشرا ولا بطرا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) واستشهد الإمام الحسين وأصحابه لتكون دماؤهم القربان الذي حفظ دين محمد (ص) من الانحراف، استشهد بعد أن دوت صرخته في أقطار السموات والأرض (إن كان دين محمد لم يستقم---إلا بقتلي يا سيوف اخذيني) وأخذته السيوف هو وأصحابه، وصار شهر محرم من ذلك الحين شهر حزن وألم عند اتباع أهل البيت وغيرهم، وسيبقى هكذا تتوارثه الأجيال إلى يوم يبعثون.
وبناء على ذلك؛ فإن إحياء ذكرى الامام الحسين (عليه السَّلام) إنما هو إحياء لقضية الإسلام والأمة، وإحياء لذكرى كل شهيد، وانتصار لقضية كل مظلوم. وعليه؛ حين يحل شهر محرم من كل عام يبرز الحزن المكنون في الصدور، وتتشح المدن بالسواد، ويعيش الناس أجواء حزن، يعبر عنها كل فرد بطريقته الخاصة، وترتقع الأعلام بألوانها المختلفة في الشوارع؛ والمساجد؛ والحسينيات؛ والبيوت؛ والعمارات، وهي تحمل شعارات الحزن المختلفة، حتى يُخيل للناظر أنه يرى غابة من الأعلام، تزدحم في سماء المدن العراقية، حيث أصبح رفع الأعلام في هذا الشهر تقليدا سنويا في هذه المناسبة.
ومما يلفت النظر في هذا الشهر تلك المواكب الحزينة التي تنطلق من كل مكان، تجوب الشوارع والساحات، وهي تتوشح بالسواد، وتلطم صدورها ورؤوسها، تعبيرا عن حزنها وألمها، تسير في تنظيم رائع لا مثيل له، وهي تندب من خلال ما تردده من أشعار، ذلك الجسد الذي قضى على أرض كربلاء، وهٌشمت ضلوعه خيل الطغاة.
ويشد سمعك تلك الأصوات الشجية التي تنطلق من منارات المساجد؛ والحسينيات؛ والأماكن المقدسة؛ والبيوت؛ والمواكب؛ والعمارات؛ والشوارع، ويخيل إلى من يستمع اليها أنها تصعد إلى عنان السماء، يرددها كل حجر ومدر، وأن صوتا ينطلق من السماء الدنيا، مرددا (واحسيناه) وتختط هذه الأصوات مع أصوات المواكب التي تجوب الشوارع، وتندب (وأحسيناه وأماماه) لتجسد أعظم ملحمة للحزن، عرفها تاريخ الإنسانية.
نعم؛ وليتك في كربلاء، ففي منتصف اليوم العاشر من المحرم في مدينة كربلاء، من كل عام، حيث وقف الامام الحسين، في مثل هذا اليوم، من سنة (61 ه) وحيدا بين أجساد أهل بيته وأنصاره، وهو يراهم مجدلين على الرمضاء، يناديهم فلا يجيبون، ويدعوهم فلا يسمعون، ثم يطلق صرخته التي اهتزت لها أركان السماوات والأرض، ودخلت كل بيت، وسمعها أهل السماوات والأرض، وردد صداها كل حجر ومدر إلا هؤلاء القوم الذين استحوذ عليهم الشيطان، تلك الصرخة التي ظل صداها يتردد كل عام في العاشر من محرم (أما من مغيث يغيثنا، أما من ناصر ينصرنا، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله).
نعم، وليتك في كربلاء، ففي مثل هذا اليوم، من كل عام، يجتمع آلاف الرجال من الشيوخ والشباب في منطقة باب (طويريج) ليؤدوا إحدى الشعائر الحسينية المعروفة (ركضة طويريج) وكأن النداء الذي أطلقه الأمام الحسين، حين وقف وحديدا في طف كربلاء، قد دخل مسامع هذا الجموع المحتشدة من الرجال، فهبت لنصرة سيدها وإمامها، وتنطلق هذه الجموع من شيوخ وكهول وشباب ونساء وأطفال، وقد تلفعت بالسواد، وشدت رؤوسها بالعصائب في أعظم ماراثون، سوف يخلده التاريخ، وتتوارثه الأجيال إلى يوم الدين.
فالسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صِفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نبي اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَليمِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عيسى رُوحِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّد حَبيبِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عَلِىٍّ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ وَلِىِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ الْحَسَنِ الشَّهيدِ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ الله، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ الْبَشيرِ النَّذيرِ وَابْنَ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نساء الْعالَمينَ...
اضف تعليق