بدأت الاستعدادات الرسمية والجماهيرية منذ أسابيع، استقبالا لضيوف سيد الشهداء، الإمام الحسين (ع)، إذ يقطع الملايين من الزوار مسافات بعيدة من أماكن نائية، يتوجهون الى مدينة كربلاء المقدسة للمشاركة في إحياء هذه الزيارة، إعلانا عن السير في خط أهل البيت (ع)، فيدخل المؤمنون في مدرسة عاشوراء كي يحفظوا عن ظهر قلب مبادئ الفكر الحسيني.
هذه المدرسة الحسينية العريقة التي أعطت ولا زالت تعطي جملة من المبادئ التي يتوجب الالتزام بها، حيث يتوحد المسلمون ويتقارب العراقيون وتتضح بوادر ومظاهر هذه الوحدة في الأنشطة المختلفة التي يباشر بها الشباب الحسيني وأهالي المدن العراقية فيستقبلون حشود الزوار من الداخل ومن بلدان العالم كافة، وهم يتوجهون الى كربلاء المقدسة نحو ضريح الإمام الحسين (ع)، لإحياء مراسيم زيارة الأربعين مساهمة ونصرة منهم للمبادئ التي ثار من أجلها أبو الأحرار ضد الطاغية الأموية الطائش.
إن زيارة الأربعين بمضامينها المعلنة مستقاة مما دعا إليه الإمام الحسين في طروحاته التي سبق وزامنت ثورة الطف، بيد أن هناك من لا يزال يستفهم عنها، لذلك فإن الأهداف الحسينية على الرغم من وضوحها من حيث المضمون والهدف، إلا أن هناك من لا يزال يطرح التساؤلات وبعضها قد يتلفع بالشك، منها هل هناك أهداف محددة لثورة الإمام الحسين وما الذي كان يريده الإمام من الأجيال اللاحقة، ما هي المبادئ التي دعا لها، وما هي التعاليم الحسينية التي ينبغي علينا التمسك بها؟ هذا السؤال يبدو بسيطا وواضحا، وقد يجيب عنه أحدنا على الفور، إن ما يريده الإمام الحسين عليه، هو رفع الظلم وفضح الطغيان، ونشر روح المحبة والتسامح بين الناس من دون استثناء، كل هذا كلام واضح ودقيق، ولا أحد يعترض عليه استنادا الى مرجعياته الدينية أو العقائدية أو حتى الفكرية بصورة عامة، نعم هذه هي مطالب الإمام، بيد أن المشكلة القائمة والإشكال المستمر أن هناك من لم يلتزم بالمبادئ الحسينية إلا بالتأييد اللفظي ولكن عندما يحين التطبيق والعمل بها، هنا يتضح الخلل الكبير والبون الشاسع، بين التأييد والتطبيق.
إشكالية الفارق بين القول والتطبيق
للأسف تبيّت الوقائع أن هنالك من يعلن انتماءه لعاشوراء روحا ومنهجا، ولكن عندما يحين التطبيق تنكشف الحقائق، فيظهر الفارق بين القول بالإيمان بالحسين وبين التطبيق على الأرض، فالواقع أن الجميع يعترف سواء آمن بذلك أم لم يؤمن، بأن سبط الرسول الكريم، دعا إلى إصلاح الإنسان قولا وعملا، وقدم دمه ونفسه وذويه قربانا من أجل تحقيق هذا الهدف، ولكن يبقى السؤال قائما، ماذا يريد الإمام الحسين عليه السلام من إنسان العصر الراهن، أو ماذا ينتظر من المسلمين تحديدا ومن الأتباع الشيعة على وجه أكثر خصوصية؟ إذن ثمة أسئلة كثيرة يتم طرحها ومن الواجب توضيحها والإجابة عنها من مختصين فقهاء لهم القدرة على ذلك.
لقد تأسست مدرسة الإمام الحسين مع الصوت الهادر بالحق الذي زلزل العرش الأموي وأطاح به وأعاد للإسلام هيبته ونقاءه، فقد خرج الإمام للإصلاح، وقام بهذه المهمة بالتمام والكمال، وترك دروسا عظيمة للأجيال اللاحقة، فهل تم الالتزام بها؟، إن جميع الوقائع تشير الى أن المسلمين ظلوا متأخرين عن اللحاق بالركب الإنساني المتقدم، وما زالوا حتى اللحظة كذلك، وجميع القرائن والأسباب تؤكد أن منهج حياة المسلمين يتبنى الأخطاء عن عمد، ويزيغ عن الصواب، والدلائل كثيرة في هذا المضمار، خصوصا عندما يتخصص الكلام بالحكام والمسؤولين العرب، فهناك من بين هذه الأنظمة تعلن إسلامها وتخالف مضامينه الفكرية ومبادئه الإنسانية
بالطبع مدرسة الأربعين هي مدرسة الإمام الحسين (ع)، وهي التي لا تزال تخرّج الأجيال بعد الأجيال، ولكن تبقى المشكلة قائمة مع الحكام، والطبقة السياسية التي لا تزال تعلن أنها تنتمي لمبادئ عاشوراء، لكنها لا تحوّل كلامها الى فعل، ومن الغريب حقا أن تختلف أقوال الإنسان المؤمن مع أفعاله، ثم يعلن أنه من أتباع الإمام الحسين (ع) ولعلنا نقف إزاء الكثير من الأسباب الأخرى كما نلاحظ ذلك في غياب روح التعاون بين الناس، وانتفاء حالة الإيثار تماما، وغياب التفكير بالآخر على نحو شبه مطلق، ولعل هذه الأسباب مجتمعة وربما ثمة غيرها الكثير، هي التي وضعت العصي في دواليب تقدمنا الى أمام، ولا احد يمكنه إنكار هذه الحالات التي تشكل منهج حياة خاطئ لمعظم المسلمين. والمشكلة أنهم بارعون في الكلام والوعظ، فهم يقولون أجمل الكلام وأفضله، في الوقت الذي يرتكبون أسوأ الأعمال وأكثرها انحطاطا، وهذه الازدواجية الخطيرة بين القول والفعل، تم تأشيرها منذ أوائل صدر الرسالة النبوية، حين نزلت الآية الكريمة على المسلمين لتقول لهم (يا أيها المؤمنون لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون/ الصف)، ولعل المشكلة الأكبر تكمن في وجود مثل هؤلاء الأشخاص في مناصب حساسة تمنحهم نفوذا كبيرا وصلاحيات كبيرة، فهؤلاء هم أخطر الناس على الأمة.
العمق الروحي في عهد الرسول الكريم
إن القوة الفكرية الهائلة للرسالة النبوية هي التي منحت القوة التي لا تنضب لثورة الإسلام، وعندما تخلى المسلمون عن المنهج النبوي وانحرف السلطان الأموي، انزلقت الدولة الإسلامية الى الضعف والانحدار المادي الخطير، بعد أن كانت تتحلى في عهد الرسول (ص) بعمق روحي يتجلى في كل شيء، وفي كل عمل او قول، يفعله أو ينطقه فرد أو جماعة، لقد كانت الروح النظيفة هي التي تقود أمة المسلمين، وليس النفس الباحثة عن السلطة والمال والجاه بسيف الظلم والطغيان، لهذا كانت أمتنا تتفوق على نفسها وتوصف بالتضحية والإيثار، وكل الخصال النبيلة التي يتحلى بها الإنسان السليم، وما عليها إلا العودة الى الجذور الحسينية الإصلاحية التي خرج من أجلها سيد الشهداء ثائرا مضحيا بالغالي والنفيس، لذا ليس أمام المسلمين سوى التمسك بالمدرسة الحسينية المعطاء، لكي تتربى الأجيال تلو الأجيال في هذه المدرسة التي ترتقي بالنفس والإرادة والعقل الى قمة التطور والإيمان بالمبادئ العظمى.
من هنا فإن طلاب المدرسة الحسينية، يعرفون تمام المعرفية ما ينبغي عليهم فعله، كذلك من المؤكَّد أن الجميع ممن يعلن تمسكه بالفكر الحسيني، يعرف ما هي مضامين تلك المبادئ، وماذا يريد الإمام الحسين عليه السلام؟، هنا علينا أن نسعى الى استعادة الروح النظيفة وأن تزدهر حالة التضحية والإيثار مثلما كانت تتسيد أخلاق المسلمين في عهد الرسول الكريم، وأن يتجنب الجميع خطر السلطة وسحرها، فرداً كان أو حكومة، وأن يتآخى المسلمون كأعضاء الجسد الواحد، ولابد أن يتذكر المسؤولون ممن يعلن انتماءه للحسين أهمية الالتزام بثورة الإصلاح التي قدم الإمام (ع) نفسه ودماءه من أجلها، كذلك لابد أن تستمر زيارة الأربعين كشعيرة إسلامية مباركة تدعم المدرسة الحسينية وأفكارها ومبادئها الإنسانية، وتبقى هذه المدرسة العظيمة ما بقيت الحياة، تخرّج القادة الحسينيون القادرون في كل زمان ومكان، على تحقيق الإصلاح ونشر العدل وإطفاء جذوة الظلم وإعلاء شأن الإنسان، فهذه هي مبادئ الحسين (ع) التي ثار من أجلها، وهي أمانة بأعناق كل من يعلن أنه حسيني المنهج والطريق.
اضف تعليق