إنه من أبرز الخصال الحميدة ذات المدخلية في تفاصيل حياة أي انسان، إذ لولاها تمكن من الاقتران بصديق، او بزوجة، أو بشريك عمل، وينسحب الامر الى دائرة أوسع وأكبر في علاقة الفرد والمجتمع والامة بقيادتها ومصيرها، لذا نجد الجميع يدّعي التحلّي بهذه الخصلة، ويعد بـ "الوفاء" بالتزاماته ومبادئه، وبشكل عام؛ بالشخصية التي ظهر بها في الواقع الخارجي.
بيد ان الأهم من هذا؛ الآلية والطريق الى اكتساب هذه الخصلة، فهل تأتي بالمجان أو صدفة؟ أو هل يخال البعض أن بالامكان أن يكون وفياً او صادقاً او أميناً وقتما شاء...؟!
من ثنايا واقعة الطف نقتبس هذا الدرس العظيم من مدرسة أبي الفضل العباس، عليه السلام، فقد بات رمزاً للفضائل والمكارم، وفي طليعتها "الوفاء" الذي تمثل في مواقف عدّة يوم عاشوراء، نسمعها ونقرأ عنها، ابتداءً من الصمود والتحدي في ساحة المعركة، وليس انتهاءً بحكاية الماء الخالدة، فمن أين جاء العباس بهذا الوفاء الخالد؟.
نفوذ البصيرة
القضية لم تكن محدودة بعلاقات زوجية أو اجتماعية او سياسية او اقتصادية، إنما بقضية حضارية كبرى يمثلها الامام الحسين، عليه السلام، في منازلته لقوى الانحراف والتضليل في الامة، فكان العباس، عليه السلام، مدركاً لتفاصيل القضية، فهي قضية رسالة سماوية مستهدفة من لدن طلاب السلطة، يرومون تشويه صورتها بإفراغها من محتواها الحقيقي وحرق جذورها ومن ثم إبعاد الامة عنها، وهذا يفسّر كون العباس، حامل اللواء في معسكر الامام الحسين، عليه السلام، وهذه المهمة لاتُعطى الاعراف العسكرية آنذاك، إلا لمن محض الولاء والايمان واليقين بقضيته، ويكون أقرّب المقربين، لأن بسقوط هذا اللواء يكون سقوط وانهيار المعسكر كاملة، ولعل خير شهادة على ذلك ما نقرأه عن الامام الصادق، عليه السلام، بأن كان "عمنا العباس بن علي، نافذ البصيرة، صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً".
هذه البصيرة النافذة لم تتولد في الايام الاخيرة من حياة أبي الفضل العباس، او عندما وجد الخطر محدقاً بأخيه الامام الحسين، عليه السلام، إنما تعود الى عهد الصبى والطفولة عندما كان في حجر أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام، ففي حديث يذكره صاحب كتاب "مستدرك وسائل الشيعة" بأن الامام سأله ذات مرة ملاطفاً: "قل واحد"! فأجاب العباس: "واحد"، ثم قال له الإمام، عليه السلام: "قل اثنين"! فامتنع العباس قائلاً: "استحي أن اقول اثنين بلسان قلت به واحداً".
هذه الرواية تبين عمق الايمان في نفس أبي الفضل العباس، وكيف كانت تنمو مع دمه ولحمه حتى أصبح ذلك الفارس المقدام والقائد الوفي في معسكر الامام الحسين، عليه السلام، فالجهاد والوفاء والنصيحة التي جاءت في الزيارة التي خصّها الامام الصادق، عليه السلام، لبطل الطف، وغيرها من الفضائل والمكارم، إنما تقوم على قاعدة ايمانية خالصة ويقين عميق بوعد الله بنصر المؤمنين والحق.
ولذا نجد العباس يقترن بالامام الحسين، عليه السلام، في خط الامتداد لرسالات الله التي جاء بها الانبياء والمرسلين على مر العصور والدهور، وهذا ما تؤكده النصوص الواردة في زيارته، عليه السلام، وعلى لسان الامام الصادق، عليه السلام: "سلام الله، وسلام ملائتكه المقربين، وانبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين، والزاكيات الطيبات، فيما تغتدي وتروح عليك يا بن أمير المؤمنين...".
فلأنه، عليه السلام، جسّد أهداف الانبياء والمرسلين وطموحاتهم التي قضوا دونها، فانه يستحق سلام جميع أولئك المرسلين من السماء منذ آلاف السنين، وكما أن الامام الحسين،عليه السلام، حفظ مواريث الانبياء ومنجزات الصالحين، بتضحياته، فان أخيه العباس، عليه السلام، كان شريكاً له في هذه المهمة الرسالية العظيمة.
الأخوة الإيمانية
من تقاليد وأعراف المجتمع العربي الاول، تقديسه العلاقة الأخوية وإعطائها أهمية بالغة، لاسيما وقت الشدائد والمحن، فأول دعوة توجه الى الأخ للعون والمساعدة، وهي مسألة تبدو فطرية وغريزية، بيد أن المشكلة كانت تحصل – وما تزال الى يومنا هذا- التعكّز على هذه العلاقة لكسب معارك وصراعات عشائرية او شخصية على قضايا غير حقّة وغير عادلة، وهذا ما ورط المجتمعات الاسلامية دائماً في نزاعات تغذيها عصبيات طالما حاربها الاسلام، ودعا الى نشر السلم والمحبة والتعايش بين افراد المجتمع الواحد والدين الواحد، وتعزيز العلاقات الأخوية في الأسرة الواحدة على أساس الايمان والاخلاق، ولمجرد علاقات النسب، ولطالما يحدثنا القرآن عن علاقات كهذه، انتهت بالفشل بسبب ابتعادها عن الايمان بالله، كما حصل مع نبي الله نوح وابنه، أو مع نبي الله ابراهيم وعمّه "آزر"، وهكذا الامثال عديدة في التاريخ.
وعندما نقرأ عن وفاء العباس بن علي، عليهما السلام، علينا تصفح سيرة حياة هذا البطل الخالد، وطبيعة علاقته مع أخيه الامام الحسين، عليه السلام، عندما شبّا سوياً، مع فارق العمر، فالفارق بين عمر الامام الحسين وأخيه العباس، عليهما السلام، 23سنة، ومنذ أن فتح أبو الفضل العباس، عينيه على أخيه الامام الحسين، وايضاً الحسن، عليهما السلام، وفطن وجودهما في أسرة واحدة، وحتى اللحظات الاخيرة من حياته على رمضاء كربلاء، كان يلهج بالإمامة وليس الأخوة عندما ينادي الامام الحسين، عليه السلام، في كل موقف وموطن. سوى اللحظة الاخيرة التي كانت تفصله عن الشهادة لحظات، اودقائق –الله أعلم- عندما سقط من فرسه الى الارض وبتلك الحالة المأساوية فهتف: "يا أخي أدرك أخاك"، وتفيدنا الروايات بأن الإمام الحسين، عليه السلام، طالما اشتاق الى هذه الكلمة العذبة أن تخرج من فم أخيه، لكن؛ حسبه، عليه السلام، الايمان الخالص لأخيه، وأنه بهذا الالتزام الاخلاقي، يقلّب مفهوماً اجتماعياً متشبثاً بالارض ليرفعه نقيّاً وصالحاً الى السماء.
اضف تعليق