في التحول اللغوي الذي أرسى فلاسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى مفاهيمه الفلسفية بالقرن العشرين لم تبق هناك حاجة بعد استنفاد العقل لمزاياه الموروثة التي أسقطتها عنه فلسفة ما بعد الحداثة بتنوعاتها الفلسفية بدءا من البنيوية والتفكيكية والتأويلية والعدمية والعبثية، الى وجوب الابتعاد عن قياس فاعلية العقل...
بحسب الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي 1931- 2007 يختلف ما هو عقلي عما هو فيزيائي، وهذا الاختلاف كان بدأه ديكارت في تقسيمه العقل نفسه الى فيزيائي مرة والى غير فيزيائي تارة اخرى، فالعقلي ويقصد به الانسان هو ما يعقل ذاته ويعقل موجودات العالم الخارجي، ولا يشترط أن يكون الفيزيائي (المادة) يمتلك هذه الصفة الاعجازية الادراكية التي يمتلكها العقل.
فالطبيعة بكل موجوداتها وتكويناتها لا تمتلك ميزات العقل الانساني في وعيها لذاتها ولا وعيها بعض تكويناتها المتعايشة معها ولا وعيها بعض القوانين الفيزيائية التي تحكمها، فالطبيعة تدرك بموجوداتها عقليا بالإنسان كوعي والموجودات الاخرى من الكائنات التي تمتلك عقلا كالحيوانات التي يكون ادراكها الطبيعة محدودا جدا بالقياس لإدراك عقل الانسان الذكي في وعيه المستقبل.
وبعض كائنات الطبيعة كالحيوانات تمتلك عقلا لكنه يختلف عن عقل الانسان بصفات عديدة سنأتي على ذكرها وهي تتجاوز ملكة العقل الانساني في وعي ذاته وموجودات الطبيعة من غير نوعه، وعقل الانسان عقل ذكي على مستوى احساسه بالزمن، وكذلك عقل الانسان يمتلك ابتكارا واختراعا لغة تجمع النوع الواحد من جنسه. وجميع هذه الصفات وغيرها هي عقل الانسان في جوهره المادي. وليس في جوهره اللافيزيائي الذي حدد ديكارت ماهيته التفكير فقط في التعبير عن الوجود واكتساب المعرفة.
ولم يكن ديكارت يشغله أكثر من أن يكون العقل كتكوين فيزيائي بيولوجي أو غير فيزيائي لا بيولوجي منفصل عن الجسم، بحسب حاجته التعبير عما يحققه العقل من اهداف يضعها ديكارت قبل وجودها الواقعي ورغبة الادراك العقلي لها، وبقدر اهتمامه الذي كان يحاول فيه التوفيق التلفيقي بين وظيفة العقل المنفصلة عن الجسم كجوهر ماهيته توليد الافكار لطرح وجهة نظره التي يقرن بها العقل مع النفس كجوهرين غير فيزيائيين خالدين في انعزالهما عن الجسم، وأراد ديكارت بذلك المراوغة في تحييد العقل عن التداخل مع لاهوت الدين بنفس أهميته أن لا يتقاطع العقل كفلسفة مع العلم.
لم يكن ديكارت الفيلسوف الوحيد الذي لا يميز بين العقل العضوي الفيزيائي الذي هو المخ بتكويناته، وبين العقل ماهيته التفكير الذي اسماه غير فيزيائي لأنه لا يدرك بغير دلالة غيره من موضوعات، وهنا العقل المقصود غير الفيزيائي اللامادي هو نوس nose تقتصر ماهيته على التفكير وتوليد الافكار المجردة التي لا وصاية للجسم عليها لكن وصاية العقل العضوي يبقى ساري المفعول عليها. كون تجريد خلق الافكار الذهنية لا تأخذ مصداقية معناها من غير وصاية العقل العضوي عليها.
صحيح أن التفكير واللغة هما موضوعان تجريديان لكنهما عاجزان عن التفكير وأختراع اللغة في التعبير عن الاشياء من دون وصاية دماغ الانسان العقلي عليهما. وبغير هذا الترابط لا يبقى هناك معنى لتفكير ولا يبقى هناك معنى للغة من دون وصاية العقل عليهما. فمصدر التفكير ليس اللغة وأنما هو العقل. فالتفكير توسيط بين العقل واللغة.
نفهم من التفريق الذي طرحه رورتي بين الفيزيائي والعقلي أنه أراد أسقاط هيمنة مبحث الابستمولوجيا كأولوية اهتمام العقل بها باعتبارها الفلسفة الاولى التي اشغلت فلاسفة القرن السابع عشر معتبرين مهمة الفلسفة تفسير كيف يمكننا الحصول على المعرفة، بخلاف ديكارت الذي أراد تحييد العقل من المساس بما يراه الدين صحيحا حتى لو عارضه العقل برؤاه... العقل في تمسكه بالأبستمولوجيا كهدف ومبحث فلسفي سابق على كل ما يشغل اهتمامات الفلاسفة في عصره وما قبله.
ولم يكن ديكارت يجرؤ البوح العلني أن وسيلة تحقيق وتحصيل المعرفة في عصره لا يكون بغير توسيط العقل ليس كتجريد لغوي غير فيزيائي وأنما كجوهر فيزيائي يتعالق بموجود جسم الانسان بالحياة والفناء. والسبب في الفرق بين ديكارت ورورتي هو المدة الزمنية التي تقارب ثلاثة قرون تفصل بينهما في اختلاف فلسفتيهما في مراكمة مفاهيم فلسفية جديدة.
فديكارت الذي قال إن مهمة الفلسفة المركزية الاولى هي تحصيل المعرفة أبستمولوجيا، جاء رورتي معتبرا فلسفة العقل واللغة هي ما يتوجب العناية والاهتمام بهما في القرن العشرين والعقدين اللذين تلاه. ولم يبق تلك الاهمية لخدعة ديكارت حين أضل الفلسفة بمفهوم الابستمولوجيا بحسب أدانة فلاسفة اللغة لديكارت.
فكلاهما ديكارت ورورتي لا يختلفان بأن ما هو فيزيائي هو الذي تنطبق عليه قوانين الادراكات المادية، والعقلي هو الذي يدرك كل ما هو فيزيائي بالفكر المجرد الذي لا يسعى تحقيق وجوده الفيزيائي المادي على حساب التفريط بأهمية تحولات فلسفة العقل من فلسفة تعنى بمركزية تحصيل المعرفة، الى فلسفة عقلية تقوم على تفسير العالم بفلسفة اللغة وليس بقوانين تأتي من خارج نظامها اللغوي الخاص المستقل بها كبنية نسقية لا ترتبط بالعالم الخارجي.
ما فعله رورتي فلسفيا على مستوى كبير من الاهمية في الغائه مركزية العقل كمصدر للمعرفة، والثاني في اعتباره نظام فلسفة اللغة هو نظام التوازي مع الواقع لا يقاطعه ولا يحاول التداخل التفسيري معه. والثالث اللغة نظام لا تحكمه القوانين التي تحكم العالم الخارجي، فاللغة نظام مستقل داخل منظومة قواعده في النحو والاستعارة والمجاز وفائض المعنى في معرفته تفسير العالم بسلطة اللغة ذاتها وليس بسلطة قوانين الطبيعة الثابتة منها والوضعية ايضا التي أخترعها الانسان معرفيا علميا. وبهذا غادرت اللغة خاصية التعبير التجريدي عن الاشياء الى خاصية امتلاكها نسقا بنيويا مستقلا بها وحدها.
في التحول اللغوي الذي ارسى فلاسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى مفاهيمه الفلسفية بالقرن العشرين لم تبق هناك حاجة بعد استنفاد العقل لمزاياه الموروثة التي أسقطتها عنه فلسفة ما بعد الحداثة بتنوعاتها الفلسفية بدءا من البنيوية والتفكيكية والتأويلية والعدمية والعبثية، الى وجوب الابتعاد عن قياس فاعلية العقل بعلاقته التواشجية الجدلية عبر القرون مع الواقع المادي. حينما كان الفرد هو مركز استقطاب دوران الفلسفة حول الانسان كذات وكينونة وماهية وصفات وهي العصور الزمانية التي حكمت الفلسفة منذ ما قبل سقراط والى نهاية القرن السابع عشر عصر فلسفة ديكارت العلمية. التي لم تفارق قدسية الذات الانسانية لكنها أي الديكارتية فتحت ابواب الفلسفة على العلم بتكامل مع فرانسيس بيكون.
في عصر ديكارت حاولت الفلسفة الاهتمام بالمعرفة (الابستمولوجيا) في تقريبها الشديد من دعم العلم وتحصيل المعرفة الأبستمولوجيا باشتراط مهادنة الدين وتحييد اللاهوت ورجال الكنيسة لأقصى درجات التحفظ من الاصطدام المباشر بهم. أي اراد ديكارت تلفيق جمع متضادين لا تربطهما علاقة جدلية معرفية، ولا تربطهما علاقة عقلية سيسيولوجية انفصالية هي بمصطلح اليوم (علمانية) لم يجرؤ ديكارت التصريح بها ليس لأن مصطلح العلمانية لم يكن معروفا عصر ذاك وأنما من ثبات الاتهام بالزندقة والهرطقة وملاحقة ما يسمى لجان التفتيش سيئة الصيت التي تطال كل من يجرؤ التطاول على أهمية وصاية لاهوت الدين وما يقوله رجال الدين على تجاوز حرمة فصل العلم عن وصاية تعاليم رجال الكنيسة ولم يكن دقة المصطلح (العلمانية) واردا الذي كان تبلوره النهائي تم في عام 1905 في فرنسا كتشريع قانوني ملزم بعد رسوخ مفاهيم الثورة الفرنسية.
هذا التضاد بين العلم والدين اراد ديكارت حسمه بالتلفيق والدوران حول المشكلة دونما المساس بتغيير أي شيء بين القطبين المتنافسين أكثر من انحيازه نحو العلم بمهادنة الدين، وقلبت المعادلة في تغليب أهمية مركزية الدين كفلسفة اولى بدلا من العلم طيلة مدة القرون الوسطي الاوربية، الى وقت مجيء عصر الانوار الذي سبقته النهضة والاصلاح الديني في وجوب اعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، بمعنى فصل الدين عن العلم وحياة الانسان وحريته الاعتقادية بما يجده ملائما له بحياته. وهكذا بقي المتضادان لا نقل متعايشان بل بقيا في استقلالية أحدهما بعيدا عن التدخل بشؤون الاخر وأستقر هذا الاتفاق المعلن الى يومنا هذا بالتوافق بين الطرفين.. مع دخول عصر الحرية والمساواة والانتخابات وحقوق الانسان في مغادرة جحيم القرون الوسطى الاوربية وسلطة لجان التفتيش بوحشيتها المروّعة.
العقل اليوم وأهمية ماذا؟
أصبح العقل اليوم لا يستمد مقوماته المادية بمعيارية المقايسة التداخلية مع الواقع المادي ولا مع الانسان كعالم مستقل بذاته كهوية ماهوية كان قائما وأنهار كقيمة عليا بتقادم تراجع هيمنة المعرفة عن ملازمتها له، لذا أصبح في فلسفة العقل واللغة اليوم الانسان والابستمولوجيا والعقل من مخلفات الميتافيزيقا التي خرجت عليها فلسفة ما بعد الحداثة، أكثرها تطرفا فلسفة دريدا التفكيكية بضراوة شديدة غير معهودة سابقا على معاداة العقل والذات والابستمولوجيا ليس في سبق يحسب لها بل في موروث مقتبس افادت منه جاءت به فلسفة اللغة التي تبلورت بشكل تنظيري فلسفي على ايادي اقطاب البنيوية فريجة ودي سوسير وفينجشتين ومن بعدهما حلقتي فيّنا واكسفورد في التحليلية والمنطقية الوضعية وصولا تشعبات فلسفة اللغة الى تيارات متنوعة لايمكن حصر فلاسفتها ورؤاهم المستمدة جميعا من الفلسفة الأم الاولى فلسفة اللغة والمعنى التي هيمنت فلسفة اولى بالقرن العشرين.
وأصبح يراد المطلوب من فلسفة اللغة اليوم التحرر من تداخلها مع فلسفة العقل الخالصة في تمجيدها وتبنيها النزعة العلمية التي بدأها بيكون وديكارت في تكريسهما لها على وجوب أن تكون المعرفة هي جوهر تلاقي العقل مع العلم الطبيعي. وذهب ديكارت الى نوع من الموائمة التي تجعل العقل في تكامله المعرفي مع العلم والدين تلفيقية ساذجة. على العكس تماما مع ماحصل في فلسفة العقل واللغة اليوم في ابتعادها عن تعالقها مع العلم وكل من الابستمولوجيا والدين. واشتغلوا على فلسفة العقل التي لا توازي فقط المعرفة بل التقاطع معها كما في اقطاب فلاسفة التأويلية، في تحقيق مهادنة التوافق مع اللغة في تياراتها المتعددة التي يحتويها التحول اللغوي وفي نظرية فائض المعنى الذي تدخّره اللغة على الدوام في تعدد القراءات الجديدة وتأويل النص في البحث عما وراء الكلمات في غير المباح عنه. كما اعتمدها رولان بارت، فوكو، وسوسير في البنيوية وعمق هذا التوجه بعدهما بول ريكور في التأويلية (الهورمنطيقا)، لتجد فلسفة اللغة كبنية تجريدية لا علاقة لها بالعقل والانسان اوج الاهتمام بها في تفكيكية جاك دريدا.
العقل في فلسفة اللغة اليوم تراجع الى ضرورة الاكتفاء الذاتي القائم على ترابطه الفيزيائي بالجسم، ولم يعد تنطبق عليه مقولة ديكارت التي فقدت بريقها العقل جوهر لا فيزيائي ماهيته التفكير وحتميته الخلود في ملازمته خلود النفس. هذا التفريق الذي كان تطرق له ديكارت بتردد خجول بين أن يكون العقل لا فيزيائي أكثر منه فيزيائيا ما ترتب عليه انتشار مقولة ديكارت أن وسيلتنا الوحيدة في معرفة انفسنا والعالم والطبيعة من حولنا هو العقل الذي لا يقاطع ولا يتداخل مع ما هو ديني. وكان الفارق الزمني بينه وبين التقائة بفلسفة فرانسيس بيكون لا يتجاوز بضعة عقود في توجههما تتويج العقل أثمن قيمة في معرفتنا العالم وتحقيق تقدمنا العلمي فيه. ودام هذا الاعتقاد الفلسفي راسخا قرونا طويلة الى أن كنسته تماما فلسفة العقل اللغوي ونظرية التحول وفائض المعنى في الفضاء الرحب الذي فتحته ما بعد الحداثة أن من حقك أن تقول كل شيء ولكن ليس من حقك مصادرة أي شيء لغيرك هو حر في امتلاكه أو الايمان به يخالفك الرأي فيه.
هذه الارضية مهدت لريتشارد رورتي وعديدين من فلاسفة اميركان مثل جومسكي، سيرل، كواين، وسيلارز، وسانتيانا وغيرهم من اقطاب فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي الى تنحيتهم العقل مصدرا للمعرفة، بدلا من المعرفة التائهة التي باتت تبحث عن وسيلة التعبير عن ذاتيتها في تغييب سندها الصلب العقل الذي أسقطته ما بعد الحداثة معتبرة أياه ميتافيزيقا تجاوزها الزمن من منزلة الاحتكام والمرجعية التي يقاس الصواب والحقيقي بمعياره.
فلسفة العقل واللغة
من المثير للاستغراب اننا اذا ما تماشينا مع نظرية أعدام العقل وسيلة معرفية يمكن الوثوق بها، فأننا بقصد نعيه ندركه أو بقصد لا نعيه ولا ندركه نضع (العلم) في قفص الاتهام بتهمة تضليله العقل، أو تضليل العقل له لا فرق... وبهذا نجد أقصر السبل في مصادرة العقل واستهدافه في استبعاده وانفكاكه عن الابستمولوجيا التي أخلت موقعها كفلسفة أولى لازمت العقل قرونا طويلة، وكذلك استبعاد العقل عن تعالقه بكل واقعي في تعطيلهما معا وظيفة كل منهما الاخر.
لم تكن فلسفة العقل واللغة تقوم على مكنة وقدرة العقل فهم العالم الذي وصل قبل نهايته الى طريق مسدود في ما بعد الحداثة، لذا نجد فلسفة اللغة اعتمدت العقل بما لا يفقده آخر معاقله في التجريد في وقت لا يكون العقل ينتزع من اللغة طوباويتها التي تدور حول مركزية تأويل النص اللغوي في تعدد القراءات التي يتمحور دورانها حول خاصية اللغة في ملاحقة فائض المعنى الذي تدّخره اللغة بما هي لغة قبل انهمامها أن تكون وسيلة العقل في فهم العالم وتفسيره والتعبير عنه. وهذه الميزة اللغوية النظامية تفتقدها صرامة العقل الذي يرى الواقع بعيدا جدا عن اهتمامات الفلسفة اللغوية المعاصرة.
وبقي تجريد اللغة في فلسفة اللغة هو عملية التفكير اللاعقلي في تنحية واستبعاد الواقع عن تعبيرات اللغة عنه بما هو معرفة وليس بما هو وجودا. بمعنى على خلاف أن تجريد اللغة هو تعبير العقل عن الواقع نجد فلسفة اللغة رأت في تجريد اللغة الاهتمام بنظام نسقي خاص بها بعيدا عن أي التزام آخر، ولو استطاعت فلسفة اللغة الغاء التوظيف التواصلي كخاصية سيسيولوجية لغوية لما قصّرت المطالبة به في القفز من فوقه في تعالق اللغة بالواقع الاجتماعي على الخصوص. وعديد من فلاسفة اللغة ذهبوا بهذا المعنى في استهجانهم أن تكون اللغة توسيط فهم الواقع التواصلي والتداخل به. على حساب بحث اللغة تأسيس نظام لغوي خاص بها بعيدا عن الواقع الاجتماعي والطبيعي. ولعل بول ريكور وفلاسفة المنهج التأويلي بعده ومن مجايليه ذهبوا هذا المذهب المتطرف.
اضف تعليق