المعرفة القبلية في الاشياء لا يمنحها أمكانية أملاء شروطها على العقل من غير سطوة العقل الادراكية عليها، فالمعرفة القبلية تستمد حيويتها الوجودية من أدراك العقل لها حتى في حال فرضية أن العقل هو قدرة أستيعابية محدودة في الادراك الكلي الشامل للاشياء الواصل له عبر الحواس والاحساسات الناقصة في تمثيلها...

ينسب ريتشارد رورتي الفيلسوف الاميريكي لكانط أنه" قام بتحويل علم الانسان – يقصد علم المعرفة(الابستمولوجيا) وليس علم الانثروبولوجيا، الاناسة – من علم تجريبي حسي الى مستوى (قبلي) سابق على التجربة، ويعتبر كانط أن تطابق معرفتنا الاشياء يتوافق مع الافتراض أن معرفتنا الاشياء قبلي.

القول كل ماهو قبلي معرفي في الاشياء هو ميزة خصائصية معرفية ناجزة لا تحتاج العقل الادراكي لها، أمر يحمل الكثير من المجازفة الجدالية غير المتزنة، وهذا جلبرت رايل يقاطع هذا الفهم" الطبع – يقصد انطباع صورة الاشياء في الذهن - هو في جعل الحقائق مدركة حسيّا، هذا اذا كان لذلك من معنى، لأن طبع شيء على العقل من غير أن يدركه أمر غير مقبول."2، مقولة صحيحة كنت أشرت لها أكثر من مرة في بعض كتاباتي قبل أستشهادي الاقتباسي بها الآن في هذه المقالة.

لتوضيح بعض المعنى نقول محاولة كانط تحويل علم المعرفة من علم تجريبي حسي الى علم انساني معرفي قبلي موجود سابق على ادراك العقل، لا يمكننا تمريره الا بفرضية ومشروعية الخلط القائم الذي يرى في الاشياء المستقلة تمتلك حمولة خاصيتها المعرفة القبلية ذاتيا قبل ادراك العقل الحسي البعدي لها الذي لا حاجة ملزمة للاشياء ادراكه لها. من حيث وفق هذا المعنى تكون المعرفة القبلية بالاشياء التي يدركها العقل هي نفسها المعرفة البعدية التي ينشدها العقل من حيث الصفات وليس الجوهر.

فكيف يستقيم معنا تنحية العقل جانبا حين لا يمتلك حمولة معنى خاصية الادراك الحسّي للموجودات؟. لا تكون هناك معرفة قبلية للاشياء ولا معرفة بعدية لها بغير دلالة العقل الادراكية قبليا وبعديا لها. القبلية المعرفية في الاشياء كمدرك هي تصنيع عقلي فيها كخبرة مكتسبة مخزّنة تمتلكها الاشياء بواسطة العقل الادراكي لها، وليست المعرفة القبلية خاصية يكتشفها العقل بالاشياء بعديا فيها لم يكن أدركها سابقا باستثناء جواهرها سواء أكانت تلك الجواهر موجودة أو غير موجودة.

بمعنى أفتراض اكتشاف قبلية المعرفة سابق على بعدية الادراك العقلي اكتشافها خطأ ورد نقرأه في عبارة كانط السابقة.أذ لا يمتلك العقل معرفة قبلية عن شيء ما هي بالنسبة لادراكها بعديا لا يضيف لها شيئا جديدا. واذا كانت قبلية المعرفة يعرفها العقل مسبقا فما الفائدة المرجوة من أدراكها المعرفي بعديا.؟ وما الجديد بها أو المضاف لها؟

المعرفة القبلية في الاشياء في حال تسليمنا الاقرار بصحتها الموجودية لا تحتاج العقل الادراكي البحث في معرفتها البعدية. المعرفة القبلية بالاشياء هي معرفة لا تدرك العقل بذاتيتها كخصائص مستقلة ولا يدركها العقل الا كموضوع معرفي في قبليتها وفي بعديتها معا وفي كلا الحالتين هي صفات خارجية. وهذا الافتراض الاستقرائي لا يلغي أحتمالية أن كل الاشياء تدّخر ذاتيا باستقلالية عن العقل في موجوديتها الانطولوجية معرفة قبلية(جواهر) لا يصلها العقل ولا تستطيع هي التعبيرعنه من غير دلالة العقل الافصاحية الادراكية له، فلا يوجد معرفة قبلية لا تحتاج ادراك العقل الحسّي لها كصفات وألا انتفت عنها حقيقة كونها موضوعا يدركه العقل.. تذهب معظم الفلسفات منها الماركسية والوجودية باستثناء سارتر أن ادراك صفات الشيء الخارجية حسيّا يحمل معه ضمنا أدراك جوهره ويحتويه اذا كان موجودا أم غير موجود.

كل الاشياء والموجودات الموزعة في الطبيعة أنما هي معارف ساكنة لا تمتلك وسائل التعبير عن نفسها بمعزل عن الادراك الحسي لها والتعبير اللغوي التجريدي عنها الذي هو خاصية عقلية بعدية. العقل لا يقصد المعرفة البعدية في الاشياء في اقرارنا الافتراضي أنه يعرفها قبليا مسبقا حسب فرضية عبارة كانط. وفي التماهي مع عبارة كانط نجد أننا حصرنا قابلية العقل الادراكية تكون فقط في معرفته القبلية للاشياء وليس في معرفته البعدية لها كموجودات مستقلة في العالم الخارجي.حينها نقع في خطأ تكون فيه المعرفة القبلية هي منتجة للعقل وليست ناشئة عنه وناتجة توليديا به وهو ما لا يمكننا تصوره.

الاستعداد المعرفي القبلي الذي تدّخره الاشياء بكينونيتها الموجودية في وجودها الصفاتي لا يغنيها عن حاجتها لادراك العقل المعرفي الحسي المجرد لها. ولا يلغي حاجة معرفة أدراك العقل لها مكتفية بخصائصها الوجودية المعرفية من غير دلالة العقل الادراكية لها.. المعرفة القبلية في الاشياء لا يمنحها أمكانية أملاء شروطها على العقل من غير سطوة العقل الادراكية عليها، فالمعرفة القبلية تستمد حيويتها الوجودية من أدراك العقل لها حتى في حال فرضية أن العقل هو قدرة أستيعابية محدودة في الادراك الكلي الشامل للاشياء الواصل له عبر الحواس والاحساسات الناقصة في تمثيلها الاشياء الواردة اليه.

حين نتصور أمكانية المعرفة القبلية في الاشياء الاستغناء عن أدراك العقل في خلعه عليها خصائص صفاتية جديدة يبتدعها لم تكن قبل الادراك العقلي تمتلكها فهنا يكون انتفاء الحاجة المعرفية (البعدية) للعقل التي تجعل من المعارف المستقلة عن العقل قبليا هي التي تقود العقل في أن تكون حقيقتها معارف تمتلك خصائصها الذاتية المكتفية بنفسها التي لا تحتاج العقل معرفتها بل العقل يحتاجها ولا يستطيع ادراكها. وبذا تكون تلك الاشياء لا قيمة معرفية أدراكية عقلية لها. كل معرفة قبلية أو بعدية هي تصنيع عقلي لا تمتلكه الاشياء كمعطى وجودي يلازمها من دون معرفته العقلية وهذا ما لا ينطبق على التسليم بصحة عبارة أن العقل يستمد معارفه قبليا من الاشياء وليس بعديا لها. ما يدركه العقل بعديا معرفيا يكون هو ما أدركه قبليا معرفيا فيها. فالعقل لا يدرك ما لا قيمة له وزائفا غير حقيقيا ايضا.

واذا نحن سلمّنا فرضا وجود معرفة قبلية في الاشياء سابقة على بعدية العقل أدراكها، فيكون معنا تحصيل حاصل أن كل معرفة قبلية سابقة على ادراك العقل بعديا أنما هي في جوهرها خبرة متراكمة جرى تنميتها التخليقية بجدلية الادراك العقلي لها وليس في أمتلاك الاشياء لها كمعطى تحصيلي بقواها الذاتية اكتسبتها خصائص معرفية قبلية خبراتية خارج تداخل العقل الجدلي معها..

المعرفة القبلية هي الاضافة المستمرة العقلية التجديدية لها بعديا، فقبلية المعرفة المكتسبة كخبرة مخزنّة داخلها لا تصبح خاصية تكوينية لها من غيرسابق تداخل جدلي عقلي معها، كل معرفة قبلية تحاول فرض نفسها سابقة على تداخل العقل الجدلي معها تكون بالضرورة لا تمتلك قدرة بناء معرفتها القبلية بخصائص ذاتية لها منفصلة أدراكيا لم يكن للعقل أسهاما قبليا وبعديا في تخليقها. وهذا ينطبق حتى على الذاكرة التي هي خزّان المعارف المكتسبة انها تخليق عقلي متراكم فيها وليست خصائص ذاتية موجودة فيها سلفا.

القبلي بين الانسان والاشياء

لا يوجد ما هو معرفي قبلي في الاشياء يبني نفسه ذاتيا بقدرات غير مستمدة من جدل العلاقة مع العقل الذي يجعل ما هو قبلي في الاشياء والمعارف خبرة تراكمية مكتسبة وليست معطى فطريا يحوز ماهية منفردة وصفات خاصة به يجهلها العقل قبليا ليكتشفها بعديا. حتى جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل كما يدرك صفات الاشياء الخارجية هي ليست طبيعة قبلية بالاشياء أذا كانت تمتلكها، فالوجود المادي يسبق كل صفة ماهوية أو خاصية ذاتية كجوهر. العقل لا يستطيع الجزم بوجود جواهر بالاشياء لا يمكنه ادراكها كمواضيع.

لاحاجة نجدها ضرورية تأكيد أن جوهر الانسان بمعنى تحقيق ذاته يقوم على تصنيعه بمتراكم الخبرة المستمدة من الحياة، أما القبلي بالاشياء فهو الاخر ليس خارج تصنيع العقل في حقيقته قبل اكتسابه صفة المعرفة القبلية التكوينية في الاشياء، القبلي الذي لا يدركه العقل بالموجودات من الاشياء لا وجود له جوهرا ماهويا متحققا العقل من ادراكه، فالجوهر الماهوي بالاشياء لا وجود له سواء أدركه عقل الانسان أم لم يدركه. الجوهر في حقيقته المعرفية هو حدس تخميني افتراضي لوجود لا يحمل وثوقيته معه. لذا يكون الجوهر والماهية في الاشياء غير موجودة بدلالة العقل الذي لم يسهم تصنيعيا بها من تراكم الخبرات العقلية المكتسبة كما يفعل مع صفات الاشياء وتكويناتها المدركة من قبله. ولا يمكن أثبات وجود معرفة قبلية لم يصنعها العقل في مدركاته سوى البناء التكويني الفطري الجيني الموروث في الكائنات الحية وليس في الموجودات غير العاقلة أو غير الحيّة.

الصفات الجينية الموروثة هي معطى فطري بالولادة لم يكن للعقل دورا في بنائها التكويني في زرعها بالمخلوقات الحيّة ولا بالاشياء. ولو أجرينا تنقيبا حفريا بيولوجيا جينيا في البحث عن تلك الخصائص النوعية في الكائنات والموجودات أنما نجدها في جينالوجيتها البيولوجية مكتسبة كخبرة قبل أكتسابها صفة التوريث الجيني الفطري وهي صفات مكتسبة من متراكم التجربة التي أستقرت أحقابا تاريخية تلازم الكائن الحي حتى أصبحت بحكم تكرارها موروثات جينية فطرية بأختلاف جوهري عن الانسان في علاقته مع بناء ذاته وتصنيع ماهيته الجوهرية.

العقل يدرك ما هو قبلي في الاشياء الصفات التكوينية التي هي من أبتداع العقل ذاته في خلعه عليها محتوى وصفات تشكيله لكل معرفة قبلية بالاشياء، وما يكون موجودا قبليا بالاشياء لم يكن من تصنيع العقل يكون هو جواهر وماهيات تلك المدركات القبلية التي لم يقم العقل بتخليقها ولا يوجد ما يؤكد وجودها من عدمه.

كون الجوهر أو الماهية هي خاصية لايمتلكها الحيوان ولا الاشياء غير العاقلة لا بالفطرة التوريثية ولا بالاكتساب الطبيعي كون الجوهر تخليق ذاتي يعي كينونته الوجودية.. وتصنيع الماهية عند الانسان هي تراكم خبرة لا تسبق وجوده الانطولوجي أنما ترافقه في التكوّين بعديا حتى وصوله نهايته في مرحلة الافناء العدمي بالموت.

جواهر الاشياء غير العاقلة المشكوك بوجودها التي لا يدركها العقل هي ملازمات تلك الاشياء تتصف بالثبات كخصائص صفاتية محجوبة عن ادراك العقل ولا تجري عليها قابلية التصنيع العقلي الانساني ولا الحيواني لها في متراكم الخبرة، بخلاف جوهر الانسان الذي يتصف بالنمو والتطور المستمر في اكتسابه الخبرة التراكمية بالوعي العقلي النوعي للانسان في سعيه بناء ذاتيته الماهوية التي يكون وجوده سابقا عليها. الجوهر عند الانسان هو تصنيع ذاتي يقوم به العقل الذكي، بينما نجد الحيوان لا يمتلك ذاتا تصنيعية يدركها عقله ولا عقل الانسان، وسبب ذلك فارق وعي الذات بين الانسان والحيوان .. الاختلاف بين جوهر الانسان عن جوهر الحيوان وغيره من الكائنات، أن جوهر الانسان هو مايمثل مجموع تصنيع صفاته بنفسه في طفرة مغايرة تدعى الضمير أو الماهية او الذات أو الوعي الذكي، بخلاف الحيوان فجوهره يكون مجمل صفاته البيولوجية الخارجية الثابتة التي تنعدم معها قفزة النوع كضمير ووعي وذكاء وشعور بالزمن. بمعنى صفات الحيوان المدركة هي جوهره، بينما صفات الانسان المدركة من غيره لا تمثل جوهره المحجوب خلف صفاته.

هل الجوهر مدركا موجودا؟

من الجدير ذكره أن قضية وجود الجوهر في الاشياء الذي لا يدركه العقل أنما هي مسألة خلافية قيد الجدل الفلسفي الذي لم يخرج منها بنتيجة، ولعل أبرز الفلاسفة الناكرين لوجود جوهر الاشياء هوكيركارد وهيجل ونيتشة والفلسفة الماركسية وديفيد هيوم، أما أبرز مخترعي وجود جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل هم كانط واقطاب الفلسفة الوجودية هوسرل وهيدجر، باستثناء سارتر الذي أعتبر الجوهر هو ماهية يجري تصنيعها بالخبرة التراكمية المكتسبة من الحياة وليست الماهية أو الجوهر معطى انطولوجي جاهز يلازم الموجود الانسان (بذاته) حسب التسمية التي أطلقها كانط وتداولها هوسرل بالفينامينالوجيا. سارتر لا يعتبر جوهر الانسان معطيات فطرية يولد الطفل مزودا بها، بل يعتبرها تصنيعا ذاتيا يتطور بمرور حياة الانسان. أي الانسان بجهوده بالحياة وسط مجتمع يحقق ذاته ويبني ماهويته بارادته الحرة المسؤولة..كما يميّز سارتر بين جوهر الانسان وجواهر الاشياء بغض النظر من عدم تاكيد وجودها أو وجودها.

قبلية المعرفة بين العقل والجسم

من المهم التنبيه كما يعبر توماس ريد أن عمل العقل يشابه عمل الجسم في ميكانيكية أداء وظيفته بمحرك سابق عليه كما يذهب له العديدون. وحسب تحليلنا العبارة نذهب الى أن بيولوجيا وظائف الجسم لا تكون قبلية في أكتسابها الخبرة التي تكون في كل الاحوال مستمدة من العالم الخارجي، فالجسم يفهم ما هو قبلي عليه لا يسبق أمكانية معرفته السطحية له بدلالة العقل الحسّي وليس بدلالة مدخرات الخصائص المعرفية القبلية في الاشياء. كذلك العقل يختلف بأن مجمل ادراكاته ليست مستمدة من قبلية الاشياء معرفيا في سبقها أمكانيته البعدية في تحقيقه تلك المعرفة وجودا أنطولوجيا حيّا بتصورات مضافة جديدة لكل ما هو مدرك قبلي شيئي أو معرفي كموضوع.

أدراك قبلية المعرفة هو نفسه أدراك بعدية المعرفة من حيث الآلية والادراك العقلي لها. ومن غير المعقول أن العقل يدرك المعرفة القبلية بالاشياء بمعزل عن معرفته الادراكية البعدية لها. وفي هذا المعنى تكون المعارف القبلية بالاشياء هي التي تزود العقل بما يجب أن يكون هو عليه وليس مايجب أن تكون المعرفة القبلية هي عليه من حيث حقيقة انطولوجيا المواضيع التي يدركها العقل جدليا بعديا ولا يكتفي بمعرفتها السطحية كصفات غير قابلة للتخارج الجدلي معها بغية تطويرها..

مقولة جورج ريد الصحيحة التي مررنا بها كل مالا يدركه العقل لا يمكن تمرير التسليم به كمعرفة قبلية لا علاقة ادراكية تصنيعية للعقل بها، من حيث أن كل حلقة في منظومة الادراك العقلية هي أدراك حسي تجريدي، فالعقل اذا لم يدرك ما ينطبع بالذهن لا يستبقه ادراك بدئي بما تنقله الحواس من أحساسات عبر الجهاز العصبي وما ينطبع بالذهن يعطي معنى الوعي المرتبط بالعقل ويعطي دلالة الفكر واللغة حول موضوع الادراك في التعبير عنه، وهذه السلسلة تأخذ معناها الفيزيائي الادراكي من خلال أرتباطها بتفكير العقل في تسيّده منظومة الادراك العقلية كاملة..

ودلالة العقل الادراكية الحسّية التجريبية تلغي تماما أن تكون المعرفة هي قبلية مستقلة بذاتها ولا تنقاد للعقل في الادراك والتفسير لها. كل ما هو قبلي غير مدرك لا أهمية يمتلكها ما لم يتوفر عليه ادراك عقلي بعدي على ماهو قبلي في الموجودات هو من صنع العقل في الاشياء. بمعنى أن الاشياء المدركة عقليا لا تمتلك معارفها القبلية من غير مرورها بمصفاة العقل التوليدية لها كصفات بالاشياء وليست جواهرا أو ماهيات سواء في أفتراض تلك الجواهر موجودة أو غير موجودة.. العقل في معرفته الادراكية للشيء أنما يخلع عليه مدركاته الصفاتية الخارجية عنه ولا يزرع في باطنه الداخلي الجوهر.

لا شيء أقرب للعقل من العقل...ديكارت

هذه العبارة المكتنزة المعنى فلسفيا ترى في كل موجود يحمل قبلية معرفية أو لا يمتلكها لا يمكن تمريره كانطباع ذهني قبل معرفته بدلالة العقل ذاته في تمريره، وهي نفس عبارة جورج ريد التي سبق لنا الاستشهاد بها مع فارق تعبير اللغة. وما يدركه العقل وما لا يدركه لا يكون بمعزل عن دلالة العقل له في تمريره كموضوع أدراكي.. حتى الاحساسات المنقولة عبر الحواس لا تمتلك جواز مرورها الا بعد ادراك العقل لها، وكذا نفس الحال ينطبق على الاحاسيس التي يستشعرها الانسان استبطانيا جوّانيا عبر أجهزة تكوين الجسم لا يمكنها أن تكون انطباعات ذهنية لتلبية استجابات غريزية لها من غير فلترة العقل أجازة مرورها ويصار تلبية اشباعها كما في شعور الانسان بالعطش او الالم او الرغبة الجنسية أو الجوع أو الافراغ وهكذا. وهكذا التعميم مع كل حلقة ترتبط بمنظومة العقل الادراكية. فالوعي هو ادراك عقلي حدسي كونه غير موضوع يدركه العقل، ولا يستمد الوعي قدرته الادراكية من غير تعالقه بالذهن والذاكرة والمخيلة والجهاز العصبي الناقل لتفكير ومخارج العقل، وأخيرا يأتي تعبير الفكر واللغة في خلاصة تعبير العقل عن الاشياء وكل حلقة خارج هذه المنظومة العقلية لا معنى لها بغير دلالة العقل لها أدراكا حدسيا في انتظامها الادراكي وليس ادراكا حسّيا منفصلا كونها حلقات معرفية استدلالية مجردة مهمتها نقل تعبيرات وافصاحات العقل ولا تشكل موضوعات أدراكية متعينة مادية للعقل.. عليه يكون كل موجود معرفي مدرك وغير معرفي لا مدرك هو حالة قلقة في فرضية أمتلاكه معرفة قبلية مدخّرة مستقلة عن بعدية الادراك العقلي لها.. وقبلية المعرفة المستقلة ذاتيا يجعل العقل منها معرفة بعدية لذا لا تمر الانطباعات العقلية بالذهن الا من خلال المرور عبر حاجز الادراك العقلي الذي يكون مصفاة لما يمكن أدراكه من عدمه بما يستقبله من أحاسيس داخلية وأحساسات خارجية. ...

في عبارة ديكارت أقرب شيء للعقل هو العقل تعني لا يمكننا ادراك معرفة قبلية بمعزل عن بعدية تناولها العقلي. وأقرب رقابة على عمل العقل المعرفي الادراكي هو العقل ذاته. وعي العقل لذاته هو وعيه لموضوعه معا. وعي العقل قبلية المعرفة هي الوعي البعدي لها.

كما يشير ارسطو أن المعرفة تتمثل في التطابق مع الشيء المعروف الذي عبّر عنه فلاسفة العرب القدامى مطابقة ما في الاذهان مع ما في الاعيان. رغم أن تعبير ارسطو وقدماء الفلاسفة العرب لمعنى التطابق الادراكي مع الاشياء كما في العبارة السابقة هو فهم سطحي لا يحمل أكثر من دلالة حسيّة مباشرة في مطابقة دلالة المنطوق أو المعبّر عنه باللغة مع المدلول الشيئي الذي يعنيه ويقصده.

المهم ما نستقرؤه من فهم التطابق عند ارسطو أن كل مدرك معرفي تتوقف حقيقته الوجودية في تطابق العقل له كشيء معروف أي كموجود انطولوجيا في عالم الاشياء الخارجي... ولم يتطرق ارسطو لمصطلح المعرفة القبلية التي هي مقولة أبستمولوجية مستحدثة عصريا بالفلسفة أنوجدت مع كانط... والحقيقة التي لم يتطرق لها ارسطو ولا فلاسفة العرب القدامى أن مصطلح تطابق العقل مع الوجود الانطولوجي للاشياء ليس كفيلا أعطاء المعرفة الحسية حقيقيتها الخاصة بها.، أنما هو تعبير ناقص ليس دقيقا فالعقل صحيح يعطي مدركاته حقيقتها الانطولوجية في تطابقه الشيئي معها، لكن العقل لا يدرك الاشياء في قصدية التطابق الساكن معها لتعيين وجودها الانطولوجي الذي يتطابق فيه الفكر الادراكي الذهني مع الشيء المتعين انطولوجيا فقط... بل في تخليقها العقلي الجدلي من جديد باضافات معرفية عليها صادرة عنه وبغير هذا الفهم لا يبقى قيمة لا للعقل ولا للاشياء المدركة اذا كانت مهمة التطابق تنحصر بين تكامل العقل مع الشيء بعلاقة ليست تخارجية جدلية تجعل فكر العقل والوجود يتطوران بديالكتيك من العلاقة المتبادلة المتطورة بينهما.. الادراك العقلي للاشياء هو تخليق أنبعاثي تجديدي جدلي غير ساكن لها ومعها. وبمقدار تحقق الادراك العقلي للاشياء يجعل كلاهما يتطوران جدليا كفكر تجريدي معبّر عن الشيء، والشيء كموجود انطولوجي أدركه العقل بالتغيير وليس في قصدية المطابقة معه بما يمنحه وجوده الحسّي فقط. .

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق