للطعام جوانب رائعة متعددة. فهو اساسي لنبقى على قيد الحياة بيولوجيا، وهو يتخذ عددا لانهائيا من المعاني والادوار في تكوين المجتمع والثقافة الذي لايتوقف. والبشر اذ ينشئون علاقاتهم مع الطبيعة من خلال طرق تعاملهم مع الطعام، يحددون في نفس الوقت تعريف انفسهم وعالمهم الاجتماعي. فهم يظهرون بعض اهم علاقاتهم بالعائلة، والاصدقاء، والموتى، من خلال انتاجهم للطعام، وتوزيعه، واستهلاكه. الطعام يزود العالم بالنظام ويعبر عن معان متعددة حول طبيعة الواقع. وتقدم الاستخدامات الاجتماعية والثقافية للطعام الكثير من التفكير ببصيرة في احوال البشر.
تشكل طرق التعامل مع الطعام نسقا منظما في كل ثقافة من الثقافات، ولغة تنقل المعاني من خلال بنيتها ومكوناتها، وتسهم في تنظيم العالم الطبيعي والاجتماعي.
والطعام ليس مجرد مجموعة من المنتجات يمكن استخدامها في الدراسات الاحصائية او الغذائية، بل هو في نفس الوقت نسق من انساق التواصل، ومجموعة من الصور، وبروتوكول يطبق على مايصح قوله أو فعله، وعلى الاحوال والسلوك.
ان طرق التعامل مع الطعام مجال اولي لنقل المعنى، لان تناول الطعام نشاط اساسي يتكرر باستمرار. ان ألوان الطعام عديدة، ولها سمات مختلفة تميز كلا منها، من حيث الملمس، والطعم، واللون، وطرق اعداده، وهي علامات سهلة تدل على المعنى. فالطعام يشكل لغة سهلة المنال بالنسبة للجميع.
ولذلك بات الطعام يمثل بحسب الدراسات الأنثروبولوجية مرونة رمزية ثرية غير معتادة، فهو وسيط يمكن من خلاله عرض أيديولوجيات ثقافية شديدة التنوع وتتكون قواعد التعامل معه وفق تعبير غرامشي من «لغة» تحتوي على مفهوم محدد للعالم.
يرى سامي زبيدة في الكتاب الذي حرره قبل سنوات مع الباحث الأنثروبولوجي ريتشارد تابر وتمت ترجمته للعربية تحت عنوان «مذاق الزعتر: ثقافة الطهي في الشرق الأوسط»، أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة حيال الحدود الاجتماعية، فقبل ظهور القوميات السياسية بمعناها الحديث، كانت هذه الحدود هي التي تميز بين الجماعات العرقية أو الدينية أو الجهوية. المهم أن ما يلفت النظر في رؤية زبيدة، أن هذا التمييز عاد في العقود الماضية ليغدو معبرا عن أزمة الهوية داخل الدول الشرق الأوسطية الحديثة بشكل عام.
وهو الأمر الذي تنبهت له الباحثة الأنتربولوجية السعودية مي يماني في كتابها «مهد الاسلام: البحث عن الهوية الحجازية» الذي سعت من خلاله الى تتبع تزايد شعور الحجازيين بالانتماء المحلي الذي أخذ يتعزز أكثر فأكثر في التسعينات نتيجة للعولمة من ناحية، وتقهقر الهوية السعودية من ناحية أخرى.
من جهة اخرى، حاولت الباحثة الهولندية انوك دي كونينغ في كتابها «أحلام عولمية: الطبقة والجندر والفضاء العام في القاهرة الكوزموبوليتانية» البحث في جغرافية الترفيه الراقي في القاهرة حيثما يتواجد المهنيون من الطبقة الوسطى العليا، والتي أخذت تروج لنمط جديد من الأطعمة مع نهاية التسعينات في القاهرة، عبر تقديم لوائح طعام غربي مثل سلطة سيزر وشطائر كلوب ساندويتش.
فقد أخذت محال الـ «كوفي شوب» والمطاعم الجديدة تنطوي على ادعاء بالانتماء الى العالم الأول. فتصميمها وقوائم الطعام فيها اتخذت من نظائرها في أمريكا نموذجا لها، وبذلك أصبح الذهاب الى مطعم مثل تشيللر خبرة جسدية حميمة تشير الى انتماء للطبقة الوسطى العليا، كما أخذت هذه المطاعم والكافيات تعيد رسم خرائط المتعة والاسترخاء وخطوط السير الحضرية التي تتأسس على هذه الخرائط.
وضمن نفس السياق، تقدم الباحثة مقارنة غنية للغاية بين هذه الجماعات الذوقية الجديدة عابرة الحدود، وبين رؤية الأنثروبولوجي البريطاني بندكت أندرسن للجماعات المتخيلة.
حيث يرى الأخير أن المجتمعات المتخيلة تتخلق عبر اختلاط الخرافة بالحقيقة، فيما تؤمن الحياة اليومية الدليل على التحقق الفعلي للمجتمع. ولذلك تؤمن الكوفي شوب والمطاعم الجديدة مادة غزيرة لمثل هذا التحقق من حيث أنها ترحب بجمهور حصري نسبيا لديه رأس مال كوزموبوليتاني في أجواء غالبا ما تكون كوزموبوليتانية على نحو صارخ. وقد ساعدت الحياة اليومية المنعزلة اجتماعيا التي يعيشها كثير من أفراد الطبقة المتوسطة العليا، على نحو مماثل، في تأكيد القبول بأساليب الحياة والرغائب والتوقعات الخاصة بالطبقة المتوسطة العليا كشيء طبيعي يجري تأمينه بالانغلاق الاجتماعي، عبر خلق حواجز مادية وثقافية تضمن الأداء الذي يتواصل دون مقاطعة لحياتها.
وبذلك غدت محلات الوجبات السريعة والكوفي شوب التي تقدم أنواع مختلفة من الأطعمة والأشربة، مع نهاية التسعينيات في القاهرة، كفضاءات مؤسسة لجماعات متخيلة جديدة داخل المجتمع المحلي المصري، بشكل أخذ يرسم خرائط جديدة على مستوى التآلف والانتماء، ذلك ان الانتماء الكوزموبوليتانية ذا الأساس الطبقي في هذه الأماكن نشأت عنه تشكيلات جديدة للقرب والبعد أدت الى تشريح وتشظي المشهد الاجتماعي القاهري.
احدث جدل حول الطعام وما يمثله بوجباته المتنوعة من معاني ايديولوجية او ما له علاقة بالهويات المتخيلة لشعوب العالم، هو المعركة التي باشرتها البيتزا الإيطالية من مسقط رأسها نابولي، دفاعاً عن «إيطاليّتها» وعن بقائها إزاء «هجمة» بدأت قبل سنوات، وباتت أشدّ مع اقتراب موعد افتتاح معرض «إكسبو» 2015 في ميلانو في الأول من الشهر المقبل، وسيحمل عنواناً عريضاً وطموحاً هو «إطعام البشرية».
هذه المعركة هي مع ماركة الطعام الشهيرة (ماكدونالدز) التي نشرت اعلانا تنتقص فيه من البيتزا الايطالية.
لم يتأخر الرد الوطني و(النابوليتاني) على هذا الاعلان الذي اعتبره الإيطاليون «نهباً» لأرضية وطنية، إذ أقامت حركة «البوربونيون الجدد» النابوليتانية دعوى على ماكدونالدز لـ «إساءة إعلانها الترويجي إلى مُنتَج وطني محمي بقوانين من الاتحاد الأوروبي». وأُمطرت مواقع التواصل الاجتماعي بإعلان مصوّر يبدو كأنه يبدأ من حيث ينتهي إعلان ماكدونالدز.
هذه المواجهة في ايطاليا ليست جديدة، وحتى في بلدان اخرى من العالم لم تتوقّف منذ أن بدأت ماكدونالدز استحواذ اهتمام فئة كبيرة من المجتمع.
انها تمتد الى الكثير من المفاهيم المرتبطة بالعولمة او الامركة او محاولات الهيمنة والمقاومة.
بالنسبة للسياسة، فلطالما كانت مطاعم ماكدونالدز هدفا للتظاهرات التي تتراوح في أسبابها بين المعارضة للعولمة أو المعارضة للنظام الأميركي وصولا إلى الاعتداءات والتفجيرات، كما حدث في بعض البلدان العربية خلال السنوات الماضية.
اضف تعليق