لكي تتم معرفة مدى فعالية آلية العنف في إحداث التغيير الجذري الناجع لابدّ من دراسة خصائص العنف كسلوك كلّي لا يتجزأ له خاصية شمولية تستشري في جميع أبعاد الكيان الإنساني.
فالعنف ليس مجرّد أداة منفصلة يمكن أن تستخدم كتكتيك مؤقت في بعض الأحيان بل ينطوي الأمر على أبعاد أخرى مختلفة تظهر بأشكال متنوعة، أي أن العنف لا يكتفي بأن يبقى أداة مؤقتة تستعمل في ظروف استثنائية خاصة بل يتحول إلى نظام ثقافي عام يستحوذ على الأجزاء المختلفة التي تشكل البنيان التنظيمي. وبهذا يصبح العنف سلوكاً دائماً يدعمه نظام ثقافي ذاتي تحرّكه فكرة عقائدية مترسّخة في كيانه.
وبعبارة موجزة فإن العنف يتغلغل في أعماق النفس البشرية ليبني كيانه الخاص ويصبح هو الفكرة التي تحرّك الإنسان بحيث يتفرع منها سلوكه وثقافته. وإذا تغلغل العنف واستشرى فإنه يفرض خصائصه الذاتية على جميع أجزاء الكيان الحركي.
ومن هنا تنشأ مجموعة من الظواهر تعبِّر عن تكرّس العنف وثباته كسلوك ثقافي متجذّر كالتطرّف والتعصّب والاستبداد والتمحور الذي ينتهي إلى تقديس الفكرة الذاتية وإلغاء الآخر الذي يمثل الرأي الآخر وحينئذ «تمثل الآيدولوجيا في ما تمثل حالة التمحور الذاتي، أي تلك النزعة التي يتراءى فيها لا صوابية أية مقتضيات مخالفة»(1)
وهذا العنف الذاتي الذي أصبح سلوكاً ذا أشكال متعددة يفرض نفسه على الآخرين تعبيراً عن التقديس الأعمى لهذه الفكرة ثم يتطوّر فيتحول إلى «إرادة طاغية على صعيد التعايش الدولي الأمر الذي يقود إلى حروب القهر الحضاري المتمثلة بالغزوات العنصرية أو الدينية، ذلك أن الآيديولوجيا بسبب هذا العنصر اللاعقلائي أي التمحور الذاتي تلقى تربة خصبة لدى الجماعات الهامشية المنغلقة»(2).
إن آيديولوجيا العنف تتجه لتشكيل حالة من التقديس الجامح لفكرة العنف والإيمان الذاتي المطلق بمستخدميه ممّا يحوّل المجتمع بأكمله إلى عدو وهمي لهذه الجماعة، وهذا يعني «تفكيك الوحدة الاجتماعية، وما الحروب الأهلية سوى أحد تجلّيات هذه العاهة الماثلة في الآيدولوجيا أعني التمحور الذاتي»(3).
فعندما يتغلغل العنف في أعماق وشرايين الجماعة يسيطر عليها سلوكياً وثقافياً بحيث لا يبقى مجالاً للمنطقية والاعتدال، لأن العنف في جوهره وماهيته يعتمد على أسلوب الإكراه والقسر والاستبداد، فالعنف يسير باتجاه كونه حتمياً غير قابل للتغيير ومقدّساً لا يمكن المناقشة فيه.
ولذلك فإن آيديولوجيا العنف هذه القائمة على الحتمية والتقديس المطلقين تجر لإفراز مجموعة من أنماط السلوك والقيم تعبّر عن مكنون العنف وتأثيراته العميقة. ذلك أن الجماعة التي تمارس العنف وتنغمس فيه إلى حد تقديسه لا ترى من نفسها إلا الوجود الأحق والأفضل إذ لا مجال مع سيطرة وتحكم ثقافة العنف إلى وجود آخر يحمل توجهات أخرى، فمع السيطرة المطلقة لآيديولوجية العنف وافتقاد التعدّد والتنوّع تتوسع دوائر الانعزال والاستبداد والانشقاق والقمع، والحقيقة التي بينتها التجارب التي مرَّت بها الحركات ذات الطابع العنيف هو «التجمُّد وتنظيم أنفسهم في منظمات صارمة لا تطيق التنوّع في صفوفها وهذا البعد العنيف عن التسامح واحتمال التنوّع والاختلاف في الاجتهاد هو السبب المزمن لوقوع الانشقاقات داخل الحركات الثورية»(4).
ومع تداوم آيديولوجيا العنف واستمرارها في افراز تلك السلبيات ينمو جسم العنف وتكبر دواماته بشكل تصاعدي. ومع السيطرة المطلقة للعنف تختفي دعوات العقل والاصلاح وتبرز عناصر الفساد والاستغلال.
إن آيديولوجيا العنف يمكن لها أن تحدث تغييراً سياسياً على مستوى السلطة أو تفجّر صراعاً دموياً بين المعارضة والسلطة، ولكن هل هو هذا التغيير المطلوب الذي يحقّق الارهاصات الحضارية على المستوى البعيد المدى..؟
ولكي نستطيع أن نستطلع الإجابة ونفهم التأثيرات السلبية للعنف كإسلوب وآيديولوجيا نذكر هنا مؤشراً قد يعطينا بعض الإجابات: فقد «تبنت جماعة المسلمين ـ التكفير والهجرة ـ الدعوة إلى الله وإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الاعتزال والهجرة ثم استخدام العنف وتبنّت مقولات جاهلية المجتمعات القائمة بتغييرها إن من لا يدخل جماعة المسلمين فهو كافر إذا كان قد بلغه الأمر ولم يصدع به. واختفت الجماعة بعد إعدام قائدها شكري مصطفى وأربعة من رفاقه إثر اختطافها وقتلها الشيخ حسين الذهبي وزير الاوقاف عام 1977. وحين بدت بوادر الانشقاق على الجماعة تلوح في الأفق تصدّت لها الجماعة بعنف شديد أدى إلى إراقة الدماء واستخدمت امكانياتها في مطاردة المنشقين والمناوئين لها في كافة أرجاء البلاد»(5).
اضف تعليق