عندما يكون الانسان على درجة كافية من الوعي واليقظة في مسائل الحياة، فانه يوفر لنفسه المزيد من الاستقرار النفسي وراحة البال من مغبة تعرضه لمخاطر معينة او مفاجآت غير سارة، كما هو الحال في "الوعي الصحّي" - مثلاً- او "الوعي الاجتماعي" وغير ذلك، ويكون قادراً على ادارة دفة الامور حتى وقت الازمة. بالعكس تماماً؛ في حالة الغفلة والسبات، نلاحظ تعرض الانسان الفرد أو المجتمع، الى مفاجآت مختلفة، ربما بعضها مدمرة...! على شاكلة أزمة اقتصادية او انتشار وباء خطير، وحتى ظهور علائم سريعة لديكتاتورية في الحكم.

مما يعني أن "الوعي" كمفهوم ومفردة ثقافية ليست مطلباً خاص بإنسان معين، إنما هو مطلب عام وطموح يشمل الجميع. فكلما زادت مساحة الوعي في المجتمع والامة، كلما ساد الأمن والاستقرار وتحققت الاهداف العامة، وهذا لن يجد له مصداقية اذا لم يحتو هذا المفهوم (الوعي) على المسؤولية العامة ايضاً. إذ من المعروف لدينا انتشار حالة من الوعي بين افراد المجتمع لمسائل حيوية، مثل الاقتصاد والسياسة بفضل وسائل الاعلام السريعة، وهنالك شريحة لابأس بها تختزن في صدورها معلومات جمّة، وخلال الاحاديث الجانبية نسمع التحليلات وتبادل المعلومات الكبيرة والصغيرة، ثم الاستنتاج واصدار الاحكام المجانية على هذا وذاك، لكن نلاحظ سرعة الانسحاب عندما تدخل "المسؤولية" حلبة النقاش، فما الفائدة من معرفة الارقام المهولة للمبالغ المنهوبة ومثلها أعداد الفاسدين واللصوص او ارقام الفاشلين والطارئين، او الحديث عن فشل الاجراءات الاقتصادية او الامنية او الخطوات الدبلوماسية والى ما لا نهاية....؟

تغيير المعادلة

قبل مطالعة تجارب الآخرين وملاحظة المعادلة الحضارية في العالم، حريٌ بنا العودة الى المعادلة الحضارية التي أرسى دعائمها الاسلام منذ بزوغ فجره، حيث كان الحديث النبوي الشريف هو السائد: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". فمن خلال هذه المعادلة تقدم المسلمون اشواطاً في العلم والمعرفة وتركوا لنا وللعالم آثاراً باهرة. أما مآلات اليوم فهي بالتأكيد نتاج التخلّي عن هذه المعادلة او الخروج منها، واستبدالها بمعادلة "التواكل" والقاء المسؤولية على الغير. فرغم ان البعض يتسنّم مسؤولية لا بأس في تأثيرها على الواقع الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي، لكن نلاحظ انه يشير بالبنان الى الآخر بانه هو الذي يجب ان يتحمل المسؤولية، لاسيما اذا كان ثمة فشل او هزيمة في الموضوع. فالعلماء والمثقفون يلقون باللائمة على الحكومة في بعض المظاهر غير الثقافية، فيما يلقي المسؤولون باللائمة على العلماء والمثقفين بعدم تسليطهم الضوء على قضايا الأمن والعمل و"خدمة الوطن" وغيرها مما يسهل عملهم في الاداء السياسي. بينما يلوم العلماء التجار بعدم المساهمة في مكافحة الفقر وهكذا... علماً أن بعض هذه التوجيهات ربما تكون صحيحة وفي محلّها، بيد أن تطبيقها يجب ان يكون جماعياً لا من جانب واحد، حتى يتحقق الهدف المنشود.

من هنا يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "نحو يقظة اسلامية"، الى ضرورة تغيير المعادلة بان "اللازم ان ينقلب الميزان، ويعرف كلٌ ان المسؤول هو بالذات، فإذا عمّ هذا الوعي تقدم المسلمون الى الامام بخطوات أسرع".

آفاق الوعي

اذا عرفنا اهمية وضرورة الوعي في الحياة، على انه من مفاتيح التقدم والرقي، فمعنى هذا حاجتنا الى التطلّع الى آفاق الوعي وابعاده، فكما اسلفنا؛ هنالك الوعي الأمني والصحي والسياسي، بيد أن الوعي المؤدي الى التقدم الحضاري يتفرع الى مسارات عدّة منها:

أولاً: وعي التاريخ

وهي دعوة لمراجعة الماضي وتصفح تجارب الآخرين، ثم الاستفادة منها، وهذا يخرج الانسان من قوقعة التجارب الذاتية والاكفتاء بها، وقد ثبت ان الشعوب والأمم الحيّة، هي التي أعادت قراءة تاريخها واستفادت من تجاربه وعبره ، وهذه – بالقطع- تمثل عملية فردية يقوم بها كل انسان، وكلما كانت العملية على نطاق أوسع كانت المحصلة اكبر، بينما كلما زاد الانزواء والانكفاء على الذات، كلما تراجع الشعور بالمسؤولية وبالنتيجة انعكس الحال على الوضع العام.

ثانياً: وعي الطبيعة

ومن المصاديق الواضحة لهذا الوعي المنتج للمسؤولية، انه كلما زاد وعي الانسان بالطبيعة وما فيها وتفاصيلها، وأنها حق مشاع للجميع، كلما زاد الشعور بالمسؤولية أزاء الآخرين.

وليس عبثاً ترويج الغرب لثقافة حب المساحات الخضراء والحيوانات وحتى الحشرات، فيما هنالك حرصٌ بالغ على البيئة، حيث تنتظم جماعات خاصة للحفاظ على الغابات والمياه وبعض الحيوانات النادرة، على أن البيئة من ارض وهواء وماء، ليست ملكاً لأحد إنما هي للجميع.

ولمن يريد مراجعة النصوص الدينية يجد التأكيدات الوافرة للحفاظ على البيئة والكائنات الحيّة. يكفي ان نستذكر مقتطف من كلام أمير المؤمنين، عليه السلام، في "نهج البلاغة": "اعلموا انكم مسؤولون عن بقاع الارض..." ، بمعنى أنه حتى الجماد، ينبغي ان يكون ضمن نطاق مسؤوليات الانسان لتفادي أي تصرف او سلوك يؤدي الى الاضرار بالتربة والارض بشكل عام.

ثالثاً: وعي الانسانية

وهنا بيت القصيد... حيث نشكو غياباً في هذا الجانب، فربما نكون على درجة معينة بالوعي السياسي والوعي الاقتصادي وحتى الوعي باهمية طلب العلم والمعرفة، بيد اننا نعاني من تدني الوعي بالحالة الانسانية، فانحسار الاهتمامات بالذات والمصالح الخاصة، هو الذي أدى بنا الى عديد المشاكل والازمات.

فما يحدث حولنا، سواء القريب او البعيد، يجب ان يكون محور اهتمامنا بشكل أو بآخر، من خلال المتابعة والمناقشة لمعرفة الاسباب والخلفيات ثم الحلول، وهنا تحديداً يتبلور الشعور بالمسؤولية الذي يؤطره الوعي واليقظة في المجتمع.

وطالما أكد على هذه القضية سماحة الامام الراحل في عديد مؤلفاته وفي اكثر من مناسبة، والحثّ على تنمية الشعور بالمسؤولية من خلال تعميق حالة الوعي لدى جميع افراد المجتمع.

اضف تعليق