التكريم الذي يحصل عليه أحدهم، هو نوع من التشجيع والاعتراف بالجهد المتميز الذي قدمه في مجال علمي أو أدبي أو فني وسوى ذلك مما يمكن أن يعد من الانجازات المهمة، وقد يكون التكريم مادي عيني أو معنوي، والأمر المهم في هذا المجال أن تصل رسالة الى الإنسان المبدع، بأن إبداعه محط تقدير وإعجاب الآخرين، ما يشكل عامل إطراء وتشجيع له، كي يواصل تقديم المنجزات المتميزة التي تخدم الفرد والمجتمع.
ولكن هناك نقطة مهمة تتعلق بالتكريم، وتكاد تشكل حجر الزاوية لهذا النشاط الإنساني الذي يسعى لدعم المبدعين والمتميزين، حتى يشكل لهم هذا الاعتراف والإطراء نوعا من التشجيع الذي يدفع بهم الى أمام نحو التميّز المستمر، هذا النقطة المهمة تخص المعايير التي ينبغي أن تحكم خطوات التكريم وتنظم هذه الفعالية بما يجعلها ذات فوائد حقيقية للمبدعين والمتميزين.
فهل ما يحدث اليوم ضمن المشهد الثقافي بخصوص عمليات التكريم التي تعج بها الساحة الثقافية، يأتي ضمن المعايير المعترف بها والمتَّفق عليها، كأن تتم هذه العملية وفق خطوات تجعل من التكريم مفيد وفاعل ولا يبقى فعل شكلي الهدف منه الإعلان والترويج الذي لا يقدم ولا يؤخر، فضلا عن كونه عمل مفبرك يسيء للثقافة والمثقفين بدلا من أن يخدمهم.
إن خطوة التكريم لها أهداف معروفة، وتجري كما ذكرنا وفق خطوات تضعها لجان متخصصة وخبراء يمتلكون خبرة كبيرة ومتراكمة في مثل هذه الأنشطة، ولا يصح لكل من هبَّ ودب أن يزج بنفسه في أعمال التكريم، حتى لا تتحول هذه العملية الى نوع من التهريج، والترويج المفتعل لشخص ما أو أسم معين أو جماعة، فالمهم كما ذكرنا أن التكريم يجب أن يتم وفق شروط وضوابط يضعها المختصون، ويلتزم بها المنفذون، حتى يبقى التكريم في الإطار السليم الذي من شأنه دعم المتميزين في الثقافة والإبداع الثقافي.
ولا ينبغي أن تتحول هذه العملية الى نوع من التسطيح والتهريج والشكلية، إنما ينبغي أن تبقة محافظة على المعايير التي تحمي التكريم من السطحية، ولعل النقطة الأهم في هذا المجال يتعلق بطرفين:
الأول: الجهة أو المؤسسة أو المنظمة التي تعلن عن عملية التكريم، وما هي الأهداف التي تقف وراء ذلك؟.
الطرف الثاني: هو من يستحق التكريم، شخصا كان أو جماعة، وما هي الدوافع التي أوجبت هذا التكريم، ولعل الشفافية في اختيار الشخص المكرّم يأتي في المقدمة من هذه الإجراءات والضوابط، فالعدالة في التكريم تعد من أهم المعايير التي ينبغي الالتزام بها بصورة تامة.
الإعلام ونشر التكريم المزيّف
متى يمكن أن يكون التكريم غير صحيح، أو غير سليم، أو لا فائدة منه؟، في الحقيقة أهم قضية تجعل من التكريم مزيّفا أو شكليا أو خاليا من التأثير الفعلي، عندما يكون صادرا من جهة غير معروفة، أو غير معترَف بها، أو أنها لا تمتلك تاريخ ثقافي وقيمة ثقافية تؤهلها لتكريم شخصيات ثقافية ربما تكون ذات عمق وتجربة كبيرة من خلال ما قدمته هذه الشخصيات للمجتمع في المجال الثقافي أو الفكري أو الإبداعي على وجه العموم.
هل يسهم الإعلام في نشر عمليات وأنشطة التكريم المزيّف؟، الجواب نعم يُسهم الإعلام في الترويج لعمليات تكريم غير خاضع للمعايير التي تحكم هذا الإجراء المهم، وقد ذكرنا أن من أبسط المعايير في هذا الشأن، شفافية اختيار من يستحق التكريم على نحو عادل، وأهمية أن تكون الجهة القائمة بالتكريم ذات تاريخ يؤهلها للقيام بهذه المهمة، فضلا عن قدرتها على التكريم بما يحفظ ويوازي القيمة الإبداعية الثقافية أو الأدبية أو الفكرية التي يتحلى بها العنصر المستحق للتكريم.
كذلك ينبغي أن تكون أهداف التكريم واضحة، وجهات التمويل معروفة أيضا، لأن التكريم قد يكون مبطّن الأهداف، بمعنى ربما ما يظهر منه غير ما يختفي تحت السطح، وهذا يعني أهمية أن يكون الهدف من التكريم إبداعي بحت، ولا يهدف الى شراء المبدع أو ضم رأيه وصوته الى جهة التكريم، فهناك من يريد أن يجمَّل اسمه ويروج لأفكاره ومآربه من خلال تقريب الأسماء والشخصيات الإبداعية المتميزة.
ومن العوامل التي ساعدت على ضياع معايير التكريم الثقافي، بعض وسائل الإعلام الحديثة، لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، واستغلالها لتحقيق بعض الأهداف المشكوك بها في هذا المجال، فهناك جهات وربما أفراد لا تنطبق عليهم شروط التكريم، فصاروا يمنحون الشهادات التقديرية ويضعون فيها إمضاءهم باعتبارهم يرأسون المؤسسة أو المنظمة أو الجهة الثقافية التي قامت بالتكريم، وعندما ننظر الى منجز هذه الجهة ومن يرأسها، سنلاحظ أنه لا يمتلك أيا من شروط تكريم المبدعين، علما أن ضياع المعايير هنا لا يتعلق فقط بمن يمنح التكريم، وإنما بمن يتم تكريمهم على أنهم مبدعون، وهم لا علاقة لهم بالإبداع من بعيد أو قريب.
أولوية الحد من فوضى التكريم
لا نظن أن هناك من يعترض على إثارة هذا الموضوع ووضع النقاط على الحروف بخصوص هذه القضية، إن الإبداع شيء له قيمته التي لا تقترب منها قيمة، وأن التكريم بحد ذاته خطوة لا يحق لأحد الاعتراض عليها إذا جاءت في السياق السليم، إن وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تعج بعشرات أو مئات المنظمات الوهمية وربما الحقيقية، باتت عاملا مساعدا على تدمير معايير التكريم ونشر الزيف بصورة مضاعفة.
فما أن تتصفح هذه المواقع حتى تفاجئك هذه الجهات (العجيبة) المانحة للتكريم، وعندما تحاول أن تطلع على تاريخها، وتاريخ القائمين عليها، سوف تجد غيابا تاما للمنجز الذي يتيح لها أحقية تكريم المبدعين، كذلك لو أننا دققنا في الأسماء التي يتم تكريمها، سنجد أنها لا تمتلك ما يجعل منها متميزة إبداعيا، ما يجعل الأهداف التي تقف وراء مثل هذا التكريم غير واضحة.
لدرجة أن (الجنس اللطيف/ النساء) كان لهنَّ حصة الأسد من هذا النوع من التكريم! (على أننا نجلّ ونحترم الأسماء المبدعة)، مع أننا غالبا ما نكون إزاء أسماء غير معروفة يشملها التكريم، وعند البحث عن المنجز الإبداعي لهنّ فإننا لا نعثر على شيء يذكر، أو ربما نعثر على كتابات أولية لا تفوق جهد من يشق طريقه في يومه الأول لدخول عالم الإبداع الكتابي.
هذه الظاهرة لا يصح السكوت عليها، إنها تنعكس بالسوء على واقعنا الثقافي، ولابد للجهات ذات العلاقة أن تتخذ الإجراءات التنظيمية التي تثبت معايير التكريم المعترف بها، وتمنع الزيف والتسطيح، كما أن الأسماء التي يشملها التكريم، عليها أن تحافظ على تاريخها الإبداعي ولا تنخرط في مثل هذه الأعمال التي تسيء للثقافة والإبداع، وفعلا المبدعون الراسخون لا نجد لهم حضورا في مثل هذه الفعاليات المشكوك بنزاهتها.
نعم نحن نتفق مع من يقول بحرية العمل في هذا الاتجاه أو ذاك، طالما أن هناك من يسعى لتكريم الأشخاص، ولا ينبغي التصدي لمثل هذه الأعمال التي تشجع المواهب، هذا الكلام صحيح ولا اعتراض عليه، ولكن ينبغي أن يأتي ضمن الإطار السليم للتكريم، ولابد أن نسعى للحفاظ على المعايير الصحيحة للقيام بمثل هذه الأنشطة.
فالصحيح أن يكون التكريم وفق معايير تحدثنا عن بعضها، ولا بأس أن تتصدى لهذه المهمة منظمات ثقافية معنية بهذا الشأن، ولا يصح التساهل مع من يريد أن ينسف المعايير بحجة أن التكريم لا يلحق الضرر بأحد، كلا هناك أضرار واضحة، ولعل أشدها وضوحا فقدان القيمية المعنوية الاعتبارية للتكريم، بسبب كثرة الجهات الوهمية التي باتت تنثر الشهادات التقديرية على رؤوس أعداد كبيرة من الأسماء التي لا تقدم ولا تؤخر ولا علاقة لها بعالم الإبداع.
اضف تعليق