في موضوع سابق ذكرنا أن الامن والاستقرار على صعيد المجتمع وفي جميع مرافق الدولة، يقوم على تحمل كل فرد مسؤولية تحقيق هذا الأمن انطلاقاً من موقعه وامكاناته وقدراته. وأي اختلال في هذه المسؤولية من فرد ما، بنفس المقدار يتعرض جدار الامن والاستقرار الى الاهتزاز، فاذا كانت نسبة الاختلال قليلة، لم يشعر أحد بوقوع أمر ما مريع، أما اذا زادت النسبة كانت الكارثة.
هذه المعادلة تنطبق ايضاً على حالة السلم الأهلي الذي ينعكس ايضاً على السلم الدولي، فالانسان الفرد قادر على الإسهام في استتباب السلم وسد جميع المنافذ امام أي نوع من الاحتراب والصراع.
ولنا أن نتساءل عن السر وراء هذه القدرة والامكانية التي تمكن الفرد الواحد من التأثير على أمر خطير هكذا...؟
عندما نعرف أن صفات لا أخلاقية مثل الغرور والكبر والاستئثار، وصفات لا انسانية مثل الظلم والعدوان، تخلق الفتن والاحتراب، فان صفات على النقيض تماماً تنشر حالة السلم والتعايش، وهذا لن يكون إلا بوجود الايمان العميق بحقانية الاخلاق والانسانية والقيم السامية. فالانسان الذي لا يؤمن بالثواب والعقاب – مثلاً- لن يردعه عن ارتكاب أي عمل خاطئ، صغيراً كان أم كبيراً.
هذه الحقيقة التكوينية تكشف عنها النصوص الدينية من آيات كريمة واحاديث شريفة، حيث تؤكد أنه كلما قل منسوب الايمان في نفس انسان، كلما زاد احتمال وقوع الجريمة، وتبعاً لذلك تراجع الامن والاستقرار في المجتمع، لنأخذ الآية الكريمة: {من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً}. وعن الامام الصادق، عليه السلام، "من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا".
ومن أروع مصاديق العلاقة بين الايمان وتحقيق السلام، ما يذكره لنا سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "الصياغة الجديدة لعالم السلام والايمان والحرية والرفاه"، حيث يصور المستوى الايماني الرفيع الذي بلغه المجتمع الاسلامي الاول في ظل حكم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد بلغ "من الحصانة الايمانية أن اذا ارتكب احدهم جرماً أتى النبي، صلى الله عليه وآله، أو الوصي، عليه السلام، واعترف امامه بانه ارتكب الجرم، وطلب منهما اجراء حدود الله عليه، علماً أن بعض الحدود مؤلمة جداً". وهذا يدلنا على المستوى الراقي لمجتمع ذاك الزمان بحيث يتجاوز الفرد فيه بكل سهولة كل الحواجز النفسية في سبيل إصلاح الخطأ والانحراف.
قاعدة للسلم الأهلي
عندما يكون مستوى الايمان عالياً في النفس الانسانية، بحيث يغلّب نوازعه و غرائزه، فان استقامته تجعله رقماً هاماً في معادلة السلام والاستقرار والتعايش، لاسيما اذا عرفنا أن السلام مبدأ يتطابق مع الفطرة الانسانية، فيما الحرب والصراع، يمثل ظاهرة دخيلة على النفس الانسانية، او ربما تكون رد فعل على اعمال عنف من جهات مختلفة، سواء من نظام حاكم او من فئة بالمجتمع. وهذا ما نلاحظه من مشهد الاقتتال الطائفي او العرقي، فالجميع يظهرون الحقانية والمظلومية في هكذا حروب، وأنهم ينشدون السلام مقابل دعاة الحرب والإبادة العرقية والطائفية. فالمنتصر اخيراً هي الجهة التي تتوفر على الايمان الحقيقي والراسخ بمبدأ السلم والتعايش، فيما تنكشف الحقيقة العدوانية للطرف الآخر.
من هنا نلاحظ تأكيد سماحة الامام الشيرازي الراحل على هذه القضية في كتابه المشار اليه، في فصل خاص عن "الايمان"، حيث يصف الإيمان بانه "صمام أمان"، و"اذا اردنا الحياة السعيدة في الدنيا قبل الآخرة احتجنا الى الايمان بالله اليوم الآخر، اذ بدون الايمان بالله والخوف من الجنة والنار، لايمكن صياغة المجمع صياغة آمنة من الاخطار والمشاكل".
ورب سائل عن الآلية التي توفر وتكرّس هذا الايمان في النفس الانسانية...؟
الى جانب الكم الهائل من الاحاديث الشريفة وسيرة المعصومين، عليهم السلام، التي تؤكد على الايمان كمنظومة عقائدية متكاملة، من اصول الدين وفروعه ومبادئ وقيم، مثل القضاء والقدر والثواب والعقاب والاخلاق وغيرها، بيد ان المطلوب تفعيل هذه المنظومة على ارض الواقع، وهذا لن يتم إلا على يد النخبة المثقفة في المجتمع من علماء دين وخطباء وكتاب وغيرهم في اطار العمل المؤسسي المنظم الذي يكرّس الوعي والثقافة الايمانية في المجتمع، بما يعزز الشعور بالمسؤولية لدى كل فرد في هذا المجتمع، بانه ليس مسؤولاً عن نفسه وحسب، وإنما عن الآخرين ايضاً، وإن أي تراجع عن مبدأ او قيمة ما، من شأنها ان تنفع في نار الصراع والاحتراب، حتى وإن كانت البداية شرارة بسيطة.
الانطلاق نحو الأمن القومي
عندما يكون الايمان قاعدة لتحقيق السلم الأهلي وعاملاً للتماسك الاجتماعي، فانه يكون قادراً –بالتبع- للانطلاق نحو تحقيق الأمن القومي ومواجهة المخاطر والتحديات الخارجية، وإلا ما الذي يفسر سرعة اندلاع الحروب الطائفية والعرقية في بلادنا الاسلامية، وبنفس السرعة نلاحظ التدخلات العسكرية والسياسية للقوى العظمى...؟
إن حالة "اللاإيمان" بالقيم والمبادئ، والانكفاء على الذات والخصوصية والطائفية والعرقية وحتى الحالة القبلية الجاهلية، هو الذي يحدث الخروقات في جدار الامن القومي للبلد، ويهدد سلامة الارض وكرامة المجتمع، كما حصل في العراق خلال السنوات الماضية. فكان من المفترض ان يكون سقوط الطاغية وطي صفحة الطغيان والظلم والانحراف، بداية تؤسس على الايمان بالمبادئ والقيم، كانت المفاجأة ان يتم التأسيس على المصالح الضيقة والعصبيات الجاهلية، مما جعل العراق مصاباً بداء العنف والكراهية وساحة مفتوحة لمشاريع الحرب والاقتتال بدلاً من مشاريع السلم والبناء.
فهل يا ترى؛ هل أن الانسان العراقي – من جملة افراد المجتمع الاسلامي- عاجز عن بلوغ المستوى الايماني الرفيع الذي يجعله يجسد مشروع سلام ومحبة وبناء في الداخل، ورسالة مطمئنة الى العالم كله؟!
اضف تعليق