هل هناك علاقة بين زيادة وقلة أعداد العاملين على الإنتاج؟ في السابق قبل عصر الكومبيوتر، كانت كمية الإنتاج تعتمد بصورة مباشرة على زيادة أعداد الأيدي العاملة، فكلما كان عددهم كبيرا كان الإنتاج أكثر من حيث الكم وليس النوع، هل ينطبق هذا القانون أو المعادلة على العمل في الميدان السياسي، بمعنى هل يزداد الإنتاج السياسي الأفضل بزيادة أعداد الطبقة السياسية العاملة في الساحة.

لو أخذنا إنتاج العمل السياسي في العراق كمؤشر أو مجس نحاول من خلاله أن نتوصل الى إجابة صحيحة عن هذا السؤال، سوف نتوصل الى إجابة معاكسة للمعادلة المذكورة في أعلاه، حيث زيادة العاملين في الساحة السياسية العراقية أدت الى رداءة في نوع الإنتاج وحتى كميته، وهذه النتيجة هي حاصل سنوات طويلة قاربت العقد ونصف أي منذ نيسان 2003 وحتى الآن، لم يلمس العراقيون من طبقتهم السياسية ما يثبت نجاح قانون ارتباط زيادة الإنتاج بزيادة العاملين.

إذاً هنالك أسباب في فشل تطبيق القانون أعلاه على الحالة العراقية، وهنا يحضر تساؤل آخر هل فشلت الطبقة السياسية في تحسين الإنتاج السياسي لصاح بناء الدولة المستقرة المتطورة، وكما تفصح لنا السنوات التي فاقت العقد بأكثر من ثلاث سنوات، فإن الفشل هو الإجابة المنطقية عن السؤال، لاسيما أن الأوضاع السياسية في البلاد فضلا عن الاقتصادية والصحية وسوها، تسير الى الأسوأ بصورة لا تقبل اللبس.

وهناك أسباب واضحة لهذا الإخفاق في النتائج، من هذه الأسباب كثرة الأحزاب السياسية والعاملين الآخرين في السياسية وتعدد مساراتهم الايدولوجية وسواها، يرافق ذلك فقدان الثقة بين هذه الأحزاب في علاقاتها مع بعضها، وتحوّل التنافس فيما بينها الى صراع على السلطة والمناصب والامتيازات، ومن ثم انتشار صفقات الفساد المتبادَلة ضمن منهج (غض الطرف عني وأنا أعمل المثل) ومنهج (شيلني وأشيلك)، ما أدى بالنتيجة الى فشل سياسي في إدارة البلاد وانعكس ذلك على المجالات الأخرى وخاصة تلك التي تهم حياة بسطاء الناس.

الخلافات بين الكتل السياسية

فقد شعر العراقيون بفقدان الأمل في تحقيق أحلامهم التي رافقت التغيير، حيث كانوا يأملون بتعويضهم عن الحرمان والفقر ودخولهم عصر الانفتاح والحرية، يقول أحد المواطنين في هذا الإطار، لا زلت أتذكّر حتى هذه اللحظة فرحة ذلك الشاب وهو يحادث صديقه عبر جهاز نقال مداه (5) كم فقط، كان الشاب يقول لصديقه: ها أنني أتكلم معك بالنقال بعد أن دخلنا عصر الحرية والاستقرار.. وكانت علامات الفرح تطغي على وجهه، حدث هذا بعد نيسان 2003 بأيام قليلة، إنه مشهد يفصح فعلا عن دخول العراقيين الى عصر آخر، أما استخدام الشاب للنقال، فكان بمثابة الدلالة الواضحة التي تدل على انتقال مثل هذه الأجهزة اللاسلكية من السلطة الى الشعب، وبالتالي انتقال السلطة نفسها الى الشعب، في إشارة واضحة على التغيير وعلى الآمال الواسعة التي كان يعلقها العراقيون على قياداتهم الجديدة.

في الحقيقة وكما بيّنت الوقائع التالية، لم تتحقق تلك الآمال والأسباب واضحة، تتجسد في الخلافات بين الكتل السياسية وفقدان الثقة فيما بينها، ما يطرح السؤال التالي هل انتقلت السلطة الى الشعب فعلا؟؟ بعد مرور سنوات طويلة على انتقال العراقيين الى مرحلة جديدة، إن الإجابة الدقيقة تتطلب استقراء دقيقا وصحيحا للمشهد السياسي العراقي وخطه البياني المتذبذب صعودا وهبوطا منذ لحظة التغيير حتى الآن، والأمر كله يتعلق بالعاملين في الساحة السياسية وطبيعة العلاقات المتبادلة بينهم، وهل أنها قائمة على الثقة المتبادلة أم على الصراع والتناحر من اجل المناصب والمنافع الفردية والحزبية؟ ومحاول تصفية الأجواء بين هذه الأحزاب وعدم اللهاث نحو الاستحواذ على السلطة والمناصب.

من الواضح في هذا الإطار أن المتابع بدقة يستطيع أن يرصد غياب الثقة بين السياسيين، وهو أمر بالغ الوضوح، هذا الغياب الخطير لجسور الثقة بين قادة الأحزاب والكتل السياسية، ينعكس بدوره سلبا على الشعب، فالصراعات بين السياسيين تجري في مؤسسات الدولة ودوائرها، منها ما هو معلن وهناك ما يجري منها في الخفاء، فقد تحول البرلمان العراقي مثلا، وهو مؤسسة مدنية مهمة، الى ساحة لتصفية الحسابات بين السياسيين، وقد أصابت هذه الصراعات مصالح الشعب العراقي في الصميم، ويحدث مثل هذا التضارب في مؤسسات أخرى، بسبب غياب الثقة بين أصحاب القرار، واللهاث المحموم خلف المناصب والسلطة والمال والجاه وما الى ذلك، وبدلا من أن يبقى البرلمان جهة تشريعية مستقلة، صار رؤساء الكتل السياسية يتحكمون به كما يريدون، وفقا لمصالحهم ومنافعهم، ما أفقده قوته التشريعية وفشله في إنصاف الشعب.

كثرة في العدد وقلّة في الإنتاج

لذلك بدا واضحا ذلك الخلل الذي تفرزه العلاقات المتأزمة بين مكونات الطبقة السياسية، فهي أما أن تكون في حالة خلاف حادة تصل الى التسقيط والتشهير بطرق متبادلة، أو أنها تصطف الى جانب بعضها ضمن مبدأ (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما)، ولا شك أن تبعات مثل هذه السلوكيات تنعكس على النتائج التي تفرزها العلاقات بين الأحزاب والكتل مع بعضها، وفقا لمصالحها.

هذا يعني بالنتيجة أننا أمام أزمة تنعكس نتائجها على حياة العراقيين، فمن المؤسف حقا أن تُهدَر حقوق الشعب وتضمحل أحلامه بدولة مدنية، بسبب فشل السياسيين في بناء جسور الثقة المتبادلة بينهم، في حين بدت مكونات الشعب الأخرى أكثر قدرة على التقارب وبناء الثقة المتبادلة فيما بينها، كما حدث مؤخرا في عقد الاجتماع العشائري في كركوك، والذي جمع بين عشائر ومكونات عربية وكردية وتركمانية، استطاعت أن تكسر حاجز الخوف من الآخر، وتتقارب مع بعضها، وتجلس تحت خيمة واحدة وتعطي رسالة واضحة لجميع القادة السياسيين، بأن الشعب العراقي بأعراقه ومكوناته الكثيرة عبارة عن كتلة واحدة، تجمعها روابط كثيرة لا يستطيع السياسيون أن يدمروها، بسبب صراعاتهم وأطماعهم حول السلطة والمناصب.

ومع أن المشاريع تتوالى من أطرف وكتل تعمل في الساحة، إلا أن هذه المشاريع لم تكن مقبولة من لدن الجميع كما هو الحال مع مشروع (التسوية السياسية) المطروح حاليا من التحالف الوطني، والمرفوض من كتل أخرى، لذا مطلوب من القادة السياسيين وكتلهم وأحزابهم، أن يتحركوا بسرعة لرأب الصدع الخطير فيما بينهم، والذي بدا واضحا للجميع، ولابد أن يفهموا ويعرفوا أن الشعب العراقي ليس مستعدا لمنحهم المزيد من الوقت لإدامة صراعاتهم، بل لم يتبق أمامهم سوى القليل من الوقت، لكي يتقاربوا ويتفاهموا أكثر فأكثر، وأن يفهموا فعلا بأن الثقة المتبادلة قادرة على إعادتهم للمسار الصحيح في قيادة البلد والوصول به الى مرافئ الحرية والاستقرار، وهو الهدف المعلَن من لدن السياسيين، لكنه يبقى بلا تنفيذ لأسباب معروفة سبق الكلام عنها.

في الخلاصة.. لم يعد هناك المزيد من الوقت أمام الطبقة السياسية، بل باتت الخيارات أمامها قليلة، ولعل الحل يكمن في إثبات هذه الأطراف العاملة في السياسة بأنها غادرت أساليبها السابقة، في إدارة البلاد، ولابد أن تبادر وتُظهر تغييرا في التعامل مع الفساد بأنواعه، ومع التشبث بالسلطة واللهاث وراء الامتيازات، إذاً التصحيح في العمل السياسي إجراء أساسي، وانعكاس ذلك لصالح الشعب، ووضع قواعد لعبة ثابتة تحفظ حقوق السياسيين والشعب.. هو السبيل الى نتائج جيدة يمكنها تحقيق الآمال المرتقبة.

اضف تعليق