يحتل الأمن مرتبة متقدمة بين حاجات الإنسان الأساسية.. كما حدد ذلك علماء النفس والاجتماع.. حيث الأمن يأتي بعد حاجة الغذاء مباشرة.. هذا على الصعيد الفردي.. وكيف يتصرف الإنسان كفرد لتأمين أمنه الشخصي.. لكن هناك أنوع كثيرة من الأمن منها مثلا الأمن العائلي.. الأمن الاجتماعي.. أمن الدول.. أمن العالم.. وهكذا تتعدد أنواع الأمن وتبقى تحتل مكانة متقدمة من اهتمام الحكومات.. والدول والمنظمات العالمية والأفراد.
قد لا نأتي بشيء جديد إذا قلنا أن الجميع يبحث عن أفضل الآليات والخطوات لضمان الأمن.. حيث (تعد مسألة الأمن أمراً أساسيّاً في الوجود مصداقاً لقوله تعالى: (فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف).. وكما هو معروف فإن الحاجة إلى الأمن تبقى أساسية لاستمرار الحياة وديمومتها وعمران الأرض.. وانعدام الأمن يؤدي إلى القلق والخوف ويحول دون الاستقرار والبناء.. ويتسبب بالهجرة والتشرد.. وتوقف أسباب الرزق مما يقود إلى انهيار المجتمعات ومقومات وجودها.. هذا يضع أمام بصائرنا ذلك القول المتميز: (نعمتان مجهولتان.. الصحة والأمان).. حيث لا يقدر الإنسان أهمية هاتين النعمتين بالصورة الصحيحة حتى يفقدهما أو أحداهما، عند ذاك يعرف ماذا يعني الأمن له.
ما نريد تبيانه في هذا المقال أهمية آليات تحقيق الأمن الاجتماعي.. وما هي العوامل المهمة التي تقودنا الى تحقيقه.. وهل صحيح أن الاعتدال يمثل حجر الزاوية في تحقيق هذا الهدف.. علما أن مفاهيم الأمن الاجتماعي وأبعاده قد تعددت.. في ضوء التحولات التي يشهدها العالم مع بروز أخطار جديدة.. ومتغيرات تركت آثارها على جميع الأنساق الحياتية سواء منها ما يتعلق بحياة الفرد أو الجماعة.. وتجاوزت الأطر التقليدية لمفهوم الأمن المتعلقة بحماية الإنسان من التهديدات المباشرة لحياته.. لكن ما نهتم به في هذه الكلمة هو الأهمية التي تنبثق من حالة الاعتدال وكيف يمكن أن تدفع نحو تعزيز الأمن الاجتماعي.. هل فعلا تمتلك خاصية الاعتدال هذه القوة الضابطة لحركة المجتمع.. وهل يمكنها أن تنظّم النشاط الاجتماعي بلا مشكلات جوهرية.. وهل يستطيع المعتدلون رسم علاقات اجتماعية متماسكة مدعومة بالاعتدال.. والوسطية التي دعا إليها الإسلام بتركيز كبير.. خصوصا اذا طالعنا النصوص القرآنية التي ما تلبث أن تنصح باعتماد هذه الخاصية تحقيقا للتماسك الاجتماعي.
قبل الخوض في التفاصيل الدقيقة.. قد يكون من المهم بحث ماهية الأمن الاجتماعي وما هو مفهومه على وجه الدقة.. فالمفاهيم والمصطلحات تتداخل في تحديد ماهية الأمن الاجتماعي وحدوده.. حيث تبرز العديد من التداخلات بين الأمن الوطني والأمن الإنساني والأمن الاجتماعي.. لكنها تتفق حول مبدأ الضرورة والحاجة.. من حيث التكامل وتتوزع في حقول دراسية بين علم الاجتماع والعلوم السياسية.. وبهذا تظهر لنا أهمية الأمن الاجتماعي والأولوية المعطاة له من لدن الحكومات والمنظمات ذات العلاقة.. فإذا تعزز أمن المجتمع.. هذا يمهد حتما الى تعزيز أمن الدولة وهو ما تحرص الحكومات على تحقيقه بأعلى نسبة ممكنة.
يعتقد بعض أستاذة الاجتماع بأن (سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تتحداهم كالأخطار العسكرية وما يتعرض له الأفراد والجماعات من القتل والاختطاف والاعتداء على الممتلكات بالتخريب أو السرقة) في حين يرى فريق من علماء الاجتماع أن غياب أو تراجع معدلات الجريمة يعبر عن حالة الأمن الاجتماعي .. وأن تفشى الجرائم وزيادة عددها يعني حالة غياب الأمن الاجتماعي.. فمعيار الأمن منوط بقدرة المؤسسات الحكومية والأهلية في الحد من الجريمة والتصدي لها وأن حماية الأفراد والجماعات من مسؤوليات الدولة من خلال فرض النظام.. وبسط سيادة القانون بواسطة الأجهزة القضائية والتنفيذية، ولكن هناك عامل أساسي ينبغي أن لا يغيب عن أعين وعقول الجهات المختصة.. هذا العامل يتلخص بالقضاء على مسببات العنف.. ولعل الاعتدال والوسطية.. هو الكابح الأول والأقوى للعنف بأنواعه لأنه يقضي على ردود الفعل المتعجّلة بأنواعها.
فما هو الاعتدال؟؟ إنه ببساطة يعني عدم التطرف.. وعدم الميل الحاد شمالا أو يمينا.. بكلمة أخرى البقاء في الوسط.. وعدم الاتجاه نحو التطرف في أي اتجاه كان.. فالاعتدال هو الموقف الوسطي، أو اتخاذ القرار المعتدل على مستوى الفرد أو الجماعة أو بخصوص القرار السياسي أو الديني.. فالإنسان المعتدل مثلا تسمية يتم إعطاءها لمن ينأى بنفسه عن التطرف بأشكاله كافة.. فهل يا تُرى هنالك ربط بين الأمن الاجتماعي والاعتدال؟.
دونما شك ثمة رابط عميق بين الاعتدال وحظوة الأمن الاجتماعي.. نستشف ذلك من حواضن التطرف وطبيعة حياتها.. بعضهم يصف العيش في المجتمعات المتطرفة بأنه عيش في أعماق الجحيم.. وآخرون جربوا العيش في أوساط معتدلة.. فلمسوا ميزة الأمن والاستقرار.. وكيف تفرغوا للإنتاج والابتكار ودفع الحياة الى الأمام بصورة مشجعة ودائمة.. هكذا يرون أن الفارق بين المجتمع الوسطي والمجتمع المتطرف كبير الى حد التضاد التام.. فالأول المعتدل مجتمع منتج متفهّم رائق لا تجد فيه حدّية في الرأي أو القول أو الفكر أو السلوك.. يسوده الاحترام ويرتفع فيه منسوب الإنسانية عاليا.. على العكس من المجتمع المخترّق بالحدّية والمواقف القاطعة أو المتطرفة.. فهو مجتمع قابل للانزلاق في الاحتراب والفتن في أية لحظة.
هكذا مجتمعات تحتضن التطرف وترعاه.. لا تجد وقتا للسلام أو للإبداع أو الانشغال بالتجديد والابتكار.. بسبب انشغالها بما هو مناقض للبناء.. هنا تتركز خطورة التطرف.. إنه يحرق كل شيء في طريقه.. ولا يدع للإنسان فرصة كي يتغير أو يفكر أو يجد البدائل التي تأخذ بيده صوب التطور.. أما الاعتدال فهو بمثابة الركيزة التي يتوقف عليها بناء الأمن الاجتماعي.. ويعلو هذا البناء مع استمرارية حضور الاعتدال في الرأي والفكر والثقافة والموقف.. وأخيرا في السلوك.. أو الفعل الذي يأتي انعكاسا لركيزة الاعتدال.
وبعد أن عُرِفتْ أهمية الاعتدال.. نأتي الآن الى نقطة أكثر أهمية.. من هي الجهة أو الشخصية أو النخبة المسؤولة عن تطوير الوسطية في المجتمع.. هل المثقف وحده مسؤول عن ذلك والثقافة.. أم الإعلام بوسائله المختلفة.. أم النخبة الدينية أم السياسية.. أم منظمات المجتمع المدني.. أم سواها؟؟.. في الحقيقة هذا المجموع كله من التسميات والعناوين يشترك في هذه المسؤولية.. جميع النخب مسؤولة عن ترسيخ الوسطية.. الإعلام كذلك والثقافة.. حتى الأفراد لهم دور في ترصين الأمن الاجتماعي من خلال بث الوسطية كثقافة سلوك في المجتمع.. الحكومة وأجهزتها المتخصصة يقع عليها دور مهم وكبير وفاعل أيضا.
فإذا اتحد الجميع في هذا الأمر.. سوف نجد مجتمعا متماسكا متفهما بعضه لبعض.. يمتلك نسيجا اجتماعيا لا يمكن لأحد اختراقه.. ولا يمكن لظاهرة أن تزعزع تكوينه.. بهذه النتيجة نكون قد وضعنا أيدينا على جوهر القضية.. نحتاج الأمن الاجتماعي.. بتحريك وبث الاعتدال في الفكر.. الموقف.. الثقافة.. السياسة.. الدين.. وأخيرا في منظومة السلوك.
اضف تعليق