في الثقافة الفاعلة، قلما نجد مثقفين في بروج عالية، لسبب بالغ الوضوح، أن أجواء الثقافة الحيوية لا تمنح المثقف الفرصة لكي يتوحّد مع نفسه وأفكاره، وينعزل في برج عاجي، أو يعتكف في مكان خاص به، أين يمكن أن نجد المثقف اليائس، حتما في ثقافة التردي والنكوص سنجد أمثلة من هؤلاء، أما في الثقافة ذات الفاعلية المتفردة، لا يمكن أن ينعزل المثقف، لأنه لا يجد مبررا واحدا يدفعه الى هذا الفعل الذي لا يتسق مع فاعلية الثقافة.
هكذا يتحرك المثقف في أجواء الثقافة الفاعلة، فيضع لنفسه برنامجا عمليا منظما، يشتمل على الإنتاج الإبداعي المستمر، والحضور المتواصل، والتأثير القوي، وفاعلية الأفكار، والسعي لابتكار أفكار وأساليب ثقافية جديدة، تسحب البساط من تحت عزلة المثقف وتضرب حالة الاعتكاف التي يمر بها أو يسعى إليها، لذلك في الأعم الأغلب نجد أدباء فاعلين في أجواء الثقافة الفاعلة، لهم برنامجهم الذي يصد عنهم العزلة ويلقي بهم في الصميم من الحركة الثقافية.
مثل هؤلاء المثقفين يسعون الى الفعل الثقافي قبل أن يسعى إليهم، فالمعروف أن المثقف لكي يكون مثقّفاً، عليه أن يكوِّن لنفسه ثقافة، وكما يخبرنا أحد المختصين أنك لكي تكوِّن لنفسك ثقافة، يجب أن ترسم خطة ومنهجاً لتحصيل الثقافة ..هناك وسائل عديدة للحصول على الثقافة، منها الكتاب والمجلّة والصحيفة والإذاعة والتلفاز والندوات والمحاضرات والأسئلة والأجوبة وشريط الفيديو والشريط الصوتي والانترنيت وغيرها من الوسائل.
لذا مطلوب من المثقف أن يستفيد من الوقت للحصـول على الثقافة بشكل يوفق بين عمله وواجبه الأساس .. وقد يضطر منتج الثقافة الى خطوات مبرمجة كي يكون منتجا فاعلا محصنا من العزلة الطوعية، فهناك من يبحث عن مبررات قد تكون واهية أحيانا كي يتجنب الناس ويختلي الى نفسه، فيصبح عنصرا لا مكان له من الفعل الثقافي الذي لن يتطور إلا بنشاط المثقف الفكري والفعلي المتحرك، هذا يعني أننا بعزلة المثقف نخسر منتجا ثقافيا في ضروب العزلة، وهو فعل لا يصب في صالح أحد، حتى المثقف المنعزل في عزلة طوعية، إذا لم تكن محسوبة ومحدودة الزمن سوف تكون وبالا عليه قبل غيره.
من هنا يضع أصحاب الشأن خطوات لانتشال المثقف والثقافة بطبيعة الحال من الجمود أو السباب أو المراوحة في مكان واحد، من هذه الخطوات التي وضعها أحد الكتاب مثلا، وهي في الحقيقة ليست مقياسا ينطبق على الجميع ولكن الهدف منها جعل المثقف ذا هدف واضح، وصاحب برنامج منظّم حتى لا يأكله الفراغ ويأخذه نحو العزلة والشعور باللاجدوى.
خطوات عملية لبرنامج ثقافي
يرد في بعض هذه الخطوات المقترحة على المثقفين ممارستها على سبيل المثال، حاوِل أن تجعل من وقتك ساعة في كل يوم لقراءة الكتب الثقافية، اقرأ صحيفة يومية، واسـتمع إلى نشرة إخـبارية وتحليل سياسي، وتابع الندوات والبرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون .
بعد ذلك حاول أن تتفق مع عدد من أصدقائك لتكوِّن حلقة دراسة أو ندوة أسبوعية أو نصف شهرية، تجتمعون فيها، وتقرؤون في أحد الكتب الثقافية، ومن ثمّ تقومون بالمناقشة والحوار، وطرح الأسئلة والإجابة عليها، ساهم في المواسم والدورات الثقافية، ضع كتاباً على منضدتك الدراسية، واقرأ بعض فقراته في كلّ يوم، وافهم معناها، ثم احمل معك كتاباً أو مجلّة عند السّفر أو التنقّل في السيّارة أو القطار، واستثمر الوقت حين الانتظار في المحطّة، أو وأنت راكب في السيّارة أو القطار، واقرأ الكتاب أو المجلّة أو الصحيفة التي معك، عند استراحتك بعد الظّهر، تناوَل كتاباً أو مجلّة، واقرأ صفحات منه قبل أن تنام ..
ومن المستحسن أن تجعل لك دفتراً لتدوين المعلومات العامّة، التي تحتاج إليها عندما تحصل على هذه المعلومات من الكتاب، أو تستمع إليها من الإذاعة أو التلفزيون، ودوِّن اسم المصدر الّذي حصلتَ على المعلومة منه والصفحة وتأريخ تحصيل المعلومة، ستأتي الأوقات التي تحتاج فيها الى هذه الأقوال والمعلومات، فأحيانا يمكن أن تنبثق فكرة متوهجة من خلال معلومة أو مقولة اقتنصها الكاتب من موضوع ما أو رواية او مجلة أو كتاب سردي، عند ذاك يمكن أن تتحول هذه الفكرة الى منجز فكري أو أدبي مهم كما تشير الى ذلك بعض تجارب الكتاب والمفكرون والمؤلّفون على نحو العموم.
أما لماذا ينبغي أن يضع المثقف برنامجا منتظما لنشاطه وأعماله ومنجزاته، فهذا يعود الى ثمن الزمن الكبير، وصعوبة التفريط به، فالدقيقة التي تمر لا يمكن تعويضها، وعندما يضعها المثقف او المفكر او العالم في مكانها الصحيح، هذا يعني أنه حريص على الزمن، ومن باب أولى حريص على إنجازاته الفكرية وابتكاراته وتأثيره في الحركة الثقافية.
فالثقافة في حقيقة الأمر ونشاطاتها المتعددة تأخذ مساراتها المتنوعة من تنوع الأفكار وتعدد العلماء والمفكرين والمثقفين المنتجين، فكلما كثر الكتاب، كثرت الأفكار، وكثر المنجز الفكري والثقافي، وبهذا تصبح الثقافة ذات فاعلية لا غبار عليها، تنعكس بنشاطها على المجتمع كله، وعلى النخب الأخرى لاسيما السياسية التي ينبغي أن تغترف من الثقافة ما يجعلها أكثر قدرة واندفاعا لانجاز مهامها في بناء الدولة وخدمة الشعب.
لا لوأد الأفكار وهي في مهدها
تستدعي فاعلية الثقافة أفكارا جديدة مستحدَثة دائما، تغادر النمطية، وتمضي الى المغايرة بقوة، تتضاد مع السائد، تضربه في العمق، تجترح الجديد والمتجدد، وبهذه الطريقة تنبني ثقافة تشق طريقها باتجاه التفرد، ولكن هذا النوع من الثقافات يحتاج الى قبطان ماهر، فالأفكار عبارة عن بحر واسع مضطرب وعميق، والفكرة محارة او جوهرة ثمينة فريدة تختبئ في الأعماق، لا يمكن لأي شخص الغوص نحوها واقتناصها إلا المتخصص.
ذلك المتخصص هو المثقف الذي يبتعد عن العزلة، ولكن ينبغي أن تكون أرضية الثقافة غير رديئة، أي أنها مشجعة على تثوير الأفكار، وهذا لا يحدث في إطار حرية الثقافة والرأي والتفكير، وهذا بدوره يستدعي نظاما سياسيا ديمقراطيا متحررا، هكذا يمكن أن يتفاعل المثقف لانتاج ثقافة ذات فاعلية كبيرة في أجواء ذات نسبة عالية من الحرية.
لهذا لا يصح وأد الأفكار وهي في مهدها، فاعلية الثقافة تأتي من الأفكار الأصيلة المتنوعة الجديدة، والأخيرة تأتي من الأجواء الديمقراطية والعقول المتفتحة، في أجواء كهذه يصبح من المستحيل على المثقف أن يعيش عزلته الطوعية، أما عندما تكون الأجواء خانقة، ذات نهج أحادي وفكر شمولي يرفض الآخر، فإن بوادر العزلة للمثقف ستبدو صارخة.
كما أن الثقافة في ظل الفردية ستذوي مثل نار عالية تمضي نحو الانطفاء، في هذا التبادل في المراكز بين الثقافة والسياسة يمكن أن ينشط المثقف ويمكن أن ينعزل، وفي جميع الأحول ترتبط الثقافة بنوع النظام السياسي من جهة، وبمؤهلات المثقف المنتج للابداع، وعلينا أن نصر في رفض العزلة تحت جميع الظروف لأنها لا تقود الى النتائج المرتقبة، ثقافة ذات فاعلية ومثقف ذو برامج واضحة، وأجواء سياسية تحافظ على الحريات، هذا هو الثلاثي النموذجي الذي يمكن أن يبني دولة راقية وأمة متميزة.
اضف تعليق