ربما يكون المصطلح (الصحافة الفكرية) مستحدثاً في الساحة الاعلامية، لان المعروف عن الصحافة ميدانها الخبر والتقرير والتحليل، فيما الفكر تحمله دفتي الكتاب، والمشترك بين الاثنين؛ يكونان بين يدي القارئ، وفيما مضى من الزمن، كان الفكر وليس الخبر، المادة المفضلة للمخاطب في بلادنا الشرق الاوسطية – تحديداً- بسبب الاستقرار النسبي في الاجواء السياسية، مما وفر فرصة البحث والمناقشة وتقليب وجهات النظر بخصوص أنماط الحياة والخيارات المطروحة لحل العديد من المشاكل التي كانت تواجه الناس، وذلك بكل تأني وهدوء ونسبة -لا بأس بها- من الحرية، فكان بالامكان تناول الأفكار سياسية مثل الحرية والاستقلال والوحدة وغيرها، وايضاً الافكار اقتصادية، مثل الاشتراكية والاصلاح الزراعي، وحتى الافكار الدينية بفضل وجود المكتبات للبيع والمطالعة، وهذا بدوره انعكس على القارئ في مستوى ثقافته ووعيه وبصيرته بما يجري حوله.
بيد أن التحولات السياسية المتسارعة منذ سني الثمانينات وما تزال، حجبت فرص الثقافة والمعرفة عن المخاطب، ليقفز الاعلام بانواعه المعروفة ويتحول من "صاحب الجلالة" في منطقة محددة مثل مصر ولبنان، وصاحب الكلمة المؤثرة في الاحداث، الى "صاحب السلطنة" في جميع بلادنا، لتعدد اصحاب المصالح من وراء تلكم التحولات الدموية والكبرى، من اطراف اقليمية ودولية، فضلاً عن الجهات الداخلية من تيارات سياسية وثقافية ذات مصالح وتوجهات مختلفة، فبرز نجم "الخبر الأول" والاكثر إثارة، بقطع النظر عن محتواه وأبعاده، حتى وإن كان في ضرر المخاطب على المدى القصير والبعيد، لان الهدف؛ الإخبار عن آخر الانتصارات العسكرية والمكاسب السياسية، والنتيجة؛ وجد المتلقي أنه مكبّل اليدين، ما عليه سوى تناول الاخبار والتقارير بما فيها من توجيه وتوظيف وحتى افكار، دون ان يقلب الآراء والافكار، ويتحقق من المصداقية في الكم الهائل من المعروض اعلامياً، وهذا ما لمسناه في ثورة القنوات الفضائية في سني التسعينات.
السياسات الفاشلة والمدمرة للأنظمة السياسية، من جهة، ثم ظهور التطرف الخطير في الفكر الديني وما انتجه من إرهاب طائفي دموي يستحضر التاريخ بنقاطه السوداء الكبيرة، دفع الكثير الى إعادة النظر في هيمنة الصحافة والاعلام المتسارعة في تطورها وتوسعها، كما السياسة تماماً، والبحث عن الرؤى الصحيحة والدقيقة لما يجري، وايجاد تفسيرات لما حدث ومعرفة المسؤول عنها.
وجاءت الثورة الجديدة في عالم الصحافة والاعلام على يد الانترنت، وتحول مواقع التواصل الاجتماعي على وسيلة جديدة لتبادل الاخبار والرؤى والتحليلات بسرعة اكبر وعلى نطاق العالم، لتزيد من مشكلة الابتعاد عن أجواء الثقافة والمعرفة، لان ما تحمله هذه المواقع الالكترونية السهلة التداول، ما هو إلا انعكاس لذلك الفشل والانتكاس سياسة هذا البلد او ذاك، وقد كثر الحديث عن مدى جدوائية الصحافة الالكترونية في أداء الدور الاعلامي المطلوب، في ظل فوضى فكرية عارمة، أظهرت القشور وظواهر الامور الى السطح على شكل إثارات تجذب القارئ ومن يحمل الهاتف النقال، وأخفت اللباب وجوهر الحقائق.
بيد أننا شريحة باحثة عن الحقيقة تسعى للاستفادة من هذا التطور التقني في وسائل الاتصال لفتح نوافذ صغيرة ليطلّوا بها على الرأي العام بما يجول في خاطرهم من تساؤلات حول ما يجري ويحدث، وربما تكون لدى بعضهم الاجوبة من استنتاجات توصلوا اليها من تحليل وتفسير، فيرغبون بمشاركة الآخرين، او ربما يثير هذا حفيظة البعض في مسائل عقائدية وفكرية، في جانب، او يكسب المؤيدين والمناصرين من جهة اخرى، وهذا ما نلاحظه من وجود النزعة الفكرية نحو الفلسفة ونوعاً من التحلّل من الالتزامات وحتى موجة التشكيك بالعقيدة بمختلف مستوياتها، وظهورها على صفحات التواصل الاجتماعي.
هذا الواقع الجديد يكشف عن الحنين الكبير الى أجواء المطالعة الفكرية والثقافية التي كانت أيام زمان، بين من يكتب وينظر ويؤلف، وبين من يقتني الكتاب او المجلة يقرأها بنهم واهتمام، وربما تنعكس على سلوكه وحياته.
فاذا لم يكن بالامكان إعادة تلك الاجواء المعرفية وإعادة الكتاب والمطالعة الفكرية والثقافية الى سابق عهدها، فان بالامكان توفير الاجواء المناسبة لصحافة فكرية تأخذ بعين الاعتبار التطور الحاصل في المستوى الثقافة في الساحة الجماهيرية، والحاجة الى إضاءة الكثير من الحقائق الغائبة فيما يتعلق بالفكر والعقيدة والسياسة لمساحة أوسع من المتابعين والقراء.
فاذا يتفق الجميع على أن الفكر والثقافة هي التي تخلق الدوافع وتصنع الاحداث، فانها يجب ان تكون على مساحة أوسع من المخاطبين، وتخرج من الحالة النخبوية الضيقة، وبدلاً من ان تكون احاديث الفكر والثقافة في جلسات مغلقة وخاصة وضمن صفحات على الفيسبوك وغيرها، فانها أجدر بان تكون حاضرة امام جميع المخاطبين بل تشمل برعايتها مساحة واسعة من الجماهير لمزيد من المعرفة والتبصّر بما يجري لاتخاذ المواقف اللازمة والصحيحة فيما يتعلق بمجمل الاوضاع، لاسيما ما يتعلق بشكل نظام الحكم الذي بات اليوم الشغل الشاغل للشعوب، وكيفية صياغة الحلول لمشاكل جمّة، بالاستناد الى رؤى عميقة تتصل بالحقائق التي لا تشوبها شائبة ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
اضف تعليق