نعني بالتداول السلمي للسلطة، وصول الحاكم أو الحزب الى السلطة عبر الانتخاب، وليس باستخدام القوة، وعندما تتحقق هذه العملية بالدقة والانضباط الصحيح، هذا يعني أننا نقف أمام مجتمع متطور ودولة تدير شؤونها مؤسسات دولة راسخة، وهذا لا يمكن أن يحدث في ظل أنظمة لا تتمتع بالشرعية، أو الأنظمة القمعية التي تصل الى دفة الحكم بالقوة.
بمعنى أن السلطة في الدولة ذات النظام الفردي عاجزة عن نقل الصلاحيات الإدارية والسياسية بصورة سلسة محكومة بدستور دائم، ولهذا تكون هذه السلطة مركّزة في شخصية الحاكم الذي يعتمد على مجموعة من المنتفعين حوله، وبهذا لا يعترف بالدستور ولا شرعية السلطة ولا بمبدأ التداول السلمي للسلطة مستخدما القوة والعنف والترهيب في حماية كرسي الحكم، وهذا أسلوب شائع في الدول ذات الأنظمة الشمولية غير الشرعية.
وقد سادت مثل هذه الأنظمة في الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية ودول أفريقيا، إذ يقول الباحثون المعنيون في تعريفهم للمركزية، بأنها منهج حياة شامل، ينحو نحو تركيز السلطات بأنواعها في شخصية القائد الفرد، فردا كان أو مجموعة، وبهذا يتم حصر السلطة وصلاحياتها في شخص الحاكم الفرد حيث تأخذ هذه الصلاحيات بالتنامي والاشتداد على حساب الشرعية الدستورية، فتسود القيادة الفردية وتنحسر القيادة الجماعية وامتيازاتها.
للثقافة دورها في تكريس السلطات بيد الأفراد بصورة غير دستورية، أي كلما كانت ثقافة القطيع سائدة كان تركيز السلطة في يد واحدة أمرا قائما، حيث تضمحل درجة الوعي ولا يعرف الناس ما هي حقوقهم بالضبط ولا يعرفون الحريات المدنية لهذا يفشلون في الحفاظ عليها او الدفاع عنها
هذا الرأي المستنتَج من أخبار التأريخ، ووقائع العصر الراهن، يدل على أن المنهج المركزي يؤسس لثقافة القطيع الذي يمنع الفرد من الإبداع والاختلاف في الرأي والرؤية.
وعندما تسود ثقافة القطيع كما يطلق عليها البعض، تذوب القدرات الفردية وتضعف لدرجة الموت أحيانا، ويبقى الفاعل الوحيد هو المنهج المركزي القائم على حصر السلطات كافة، في شخصية القائد كما ذكرنا، مقابل إشاعة حالة من الخنوع تعم المجتمع، فيُقصى الفرد ومواهبه وتُحيَّد قدراته، فيما تتضخم الأنا السلطوية، لتتحول الى رمز يبجله الجميع، وينظرون إليه على أنه الممثل الأوحد، والأقدر على تحقيق تطلعاتهم، نحو حياة تليق بهم، مع بروز وانتشار قيم الرياء والتملق والانتهازية.
معايير الثقافة المتميزة
قد يقول قائل ما علاقة الثقافة بالحكم والسلطة والسياسة؟، لكن التأثير الثقافي على السياسة يكون كبيرا ومؤثرا، لذا فإن معيار الدول والمجتمعات الناجحة سياسيا، هو درجة الوعي العالية التي يتحلى بها المجتمع، وتطور الثقافة التي تشجع التداول السلمي للسلطة وتنشر الحريات وتحافظ عليها، وتمنع تركيز السلطة حتى لو أخت الأنا السلطوية بالتضخم، في مقابل مسخ قدرات الفرد ومواهبه، حيث تزرع حالة من التشكيك في الذات، وتُحصَر السلطات السياسية وغيرها بيد القائد الفرد، ويسود انتعاش واضح للتبجيل والرياء والتملق لشخص الحاكم، وفي الوقت نفسه، نلاحظ ضعفا في شخصية المجتمع، لأنها بُنيَتْ بطريقة خاطئة، أسَّس لها السلطان، وركّز فيها على تدمير الاستقلالية الفردية والجمعية، مقابل إشاعة الرعوية كمنهج حياة لا بديل له، كل ذلك يحدث بسبب تكريس سلطة الحاكم على الرغم من فقدانه للشرعية، وتدمير مبدأ التداول السلمي للسلطة.
وهناك من يجعل الحاكم رمزا شعبيا مؤلّهاً ومبجَّلاً، كما حدث ويحدث مع طغاة التأريخ، أو العصر الذي عايشنا فيه أمثلة لهذا النوع من تركيز السلطات، خاصة أننا نعيش في مجتمعات فتحت عيونها وبصائرها على السلطة الأبوية التي مسخت شخصية الابن، لتجيرها لصالح شخصية الأب، وليس في الأمر شيئا غريبا حين نقول، أن منهج تركيز السلطة السياسية، جاء كنتيجة حتمية لمنهج التسلط الأبوي في الأسرة العربية أو الشرقية على وجه العموم.
ومما لا شك فيه أن حدوث الاختلال بين مبدأ الفصل بين السلطات من جهة والتداول السلمي للسلطة من جهة ثانية يعود الى الثقافة السائدة، حيث يصبح المجتمع بيئة مساعدة على تضخيم سلطة الفرد او الحاكم، مع إضعاف وعي الشعب بحرياته وحقوقه، لهذا ليس صعبا على المراقب، أن يكتشف حالة الاختلال الواضحة بين الآمر والمأمور، في المجتمعات القائمة على سلطة الفرد مقابل خنوع الجماعة، وليس غريبا أن تزدهر حالة الانقياد الجمعي، لرأي الفرد القائد، وفكره، وسلوكه، وقراراته، حتى لو كانت مدمرة لحياة الشعب، لسبب واضح أن مبدأ التداول السلمي لسلطة لا حظوظ له من حيث التطبيق الفعلي.
وهكذا لا يكون هناك أي خيار أمام الجماعة سوى الخنوع المتأتي كنتيجة لسعي المستفيدين من تكريس المنهج المركزي للسلطات بواسطة نشر ثقافة عرجاء تسعى لتحقيق هذا الأمر، علما أن الهدف ينحصر في تدمير القدرات والمواهب الفردية حيث يصب هذا الهدف في صالح السلطة، أما حينما تصبح الموهبة داعمة للسلطة والمركز فسوف تكون تحت رعاية السلطة، شريطة أن تُستثمَر قدراتها في ما يخدم السلطة والحاكم، وتدعم منهجه، لهذا غالبا ما تنتهي مثل هذه المواهب الفردية الى الموت والانطفاء، بسبب مسخها وتذويبها في ثقافة وآليات المنهج المركزي.
المركزية الثقافية ومصالح الشعب
هل يمكن القول بطريقة حاسمة أن المركزية غالبا ما تعمل بالضد من مصالح الشعوب، الإجابة سنأخذها من تجارب التاريخ القريب أما منهج اللامركزي، فهو يعني الابتعاد الكلي عن شخصنة السلطات بأنواعها، واعتماد مبدأ الفصل بين السلطات، بل تبتعد عن كل ما يمت بصلة لحصر السلطات او الآراء، او حتى منهج الحياة العامة، في مسار واحد، لا يقبل بتعدد الآراء، ولا بطرق التفكير، ولا بمناهج العيش المتعددة، وبهذا يجد الفرد فسحة واسعة أمام مواهبه، وتجريبها في اتجاهات لا حدود لها، لذا نجد أن الشخصية الفردية في النظام اللامركزي، غالبا ما تكون واثقة، متوازنة، ولديها رصيد كبير من الحيوية والانتاج، وغالبا ما تنطوي على الكثير من الذكاء والنشاط المؤطّر بالحكمة، كما أنها غالبا ما تكون عارفة بطاقاتها الكامنة، وتكون مستعدة دائما، لاستخدامها الأمثل لصالحها ولصالح المجتمع برمته.
لهذا يأتي المنهج اللامركزي، كسبيل أوحد للخلاص من الرعوية والأبوية، التي تجتهد لكي تختصر الجميع في ذاتها، حتى لو ادى ذلك الى مسخ الفرد ومزايا، ثم زجه مرغما مع القطيع، الذي يؤلّه القائد ويبجله، وينظر إليه كرمز سامي لا يُسمَح بتجاوز رؤيته او أفكاره وتوجيهاته وأوامره، في الوقت الذي يكون فيه هذا الرمز، طاغية يسلب حقوق الناس، ويتجاوز على حرياتهم، وحقوقهم المشروعة، فيحيل حياتهم الى ما يقترب من الجحيم في معظم الأحيان.
وهكذا تجد شخصية الفرد في المنهج المركزي شبه ممسوخة، وغالبا ما يكون خائفا حتى من نفسه فضلا عن خشيته للتعامل مع الآخرين، فهو متردد في مواقفه، ليس له قرار ثابت او واضح، ولا قدرة له على تحمل المسؤولية مهما صغرت، والسبب دائما، هو فقدانه للشخصية المستقلة المتوازنة، نتيجة لإشاعة المنهج المركزي الذي يخدم الطغاة، ويجعل من الشعوب تابعة وعاجزة عن الابتكار والإبداع، بسبب انطفاء المواهب والقدرات الفردية والجماعية، وهذا يؤكد أن تأثير الثقافة في صنع البيئة الرافضة أو الحاضنة لسلطة الفرد أمر لا يحتاج إلى إثبات، ما يعني أننا ملزمون بنشر ثقافة تضمن التداول السلمي للسلطة.
اضف تعليق