q

لا يوجد خيار لدى الشعوب التي تحتل ذيل القائمة في التقدم، سوى تحسين نظامها السياسي الذي يتحكم بإدارة شؤون الدولة بكل مفاصلها، وقد لا يختلف أحد مع المعادلة التي تنص على أن التقدم يرتبط بقطبيّ معادلة لا تقبل الخطأ، أحد طرفيها النظام السياسي الشرعي، أي النظام الذي يصل الى السلطة وفق الشروط الدستورية المتفق عليها، أما الطرف الثاني، وضع رقابة صارمة على عدم تكريس السلطة وتركيزها في شخصية واحدة، لأن هذا التكريس يعني شيئا واحدا، هو العودة الى سلطة القائد الأوحد، أو الحزب القائد، وهذا يعني فيما يعنيه حصر الصلاحيات الواسعة في عقل واحد وإرادة واحدة ورأي واحد.

وبهذا سوف يسود المنهج الأحادي ليقضي على الآراء الأخرى، ولعل أول ضحايا مثل هذا النظام هو الرأي المعارض حتى لو انطلق من باب التصحيح والحرص على عمل الحكومة بالصورة التي تصب في صالح المجتمع، ولا شك أن هناك مرتكزات أساسية لا يمكن من دونها، أن تُقام دولة مدنية قوية، فإذا اختفت تلك المرتكزات لأي سبب كان، ستختفي الدولة الدستورية المعافاة، وستُهدَر حقوق الشعب، أما حضورها فيعني تحقيق بناء الدولة التي سيتم فيها تداول السلطة سلميا، وفي مثل هذا المنهج تكريس للتعدد والعمل وفق مبدأ حرية الآراء، وكما هو معروف فإن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

كذلك ليس أمامنا إلا أن نعترف بعدم إمكانية الوصول الى بناء الدولة المتقدمة، إلا عندما يسعى السياسيون العاملون في الميدان السياسي نحو تعضيد الشرعية في الوصول الى السلطة، وهذا يعني العمل وفق إرادة الشعب والتصويت، وما سوف تُفصح عنه صناديق الاقتراع، سوف يكون لها الكلمة الفصل كما هو معمول به في الدول المتقدمة، ومن بداهة القول أن الدولة المدنية القوية، يمكنها المحافظة على شروط ديمومتها، ومن أهم تلك الشروط، الحفاظ على الحريات، وحماية حرية الصحافة وكفالة الصوت المعارض وفق صيغ دستورية تضمن عدم تغليب السلطة ومصالحها لأي سبب كان على مصالح الدولة والمجتمع.

التزام الحكومة بالضوابط التنظيمية

ولا شك أن الدولة المتقدمة تستدعي نظاما شرعيا يقودها، يأخذ شرعيته من الشعب حصرا، ويكون قادرا على بناء المؤسسات المستقلة، وبناء الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن كليّا، وتحقيق شرط النزاهة لوأد الفساد كليّا، مع توفير المتطلبات الأخرى التي تتيح للدولة أن ترتكز الى انتظام المؤسسات الدستورية المستقلة، القادرة على إدارة السلطات المختلفة بمعزل عن بعضها، وفقا لما يورده الدستور الدائم المُقَرّ شعبيا، ولابد أن يتم تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات بصورة قاطعة لا مجال للإخلال بها، حيث يضمن هذا الشرط شرعية السلطة، فضلا عن التزام الحكومة بالضوابط التي تنظم عملها وشؤونها التي تتعلق في إدارة الدولة.

في العراق عندما نقرأ التاريخ السياسي للأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكمه منذ نشوء الدولة بداية من الحكم الملكي ثم مرحلة الحكم الجمهوري او مرحلة الانقلابات العسكرية، فإننا ربما لا نعثر على نظام يستمد شرعيته من المصدر الحقيقي للسلطة ونعني به الشعب، لذلك فإننا لا نخطئ إذا قلنا أن العملية السياسية الراهنة في العراق لم تستطع حتى اللحظة أن تبني الدولة المتقدمة، كما أن اللاعبين السياسيين، تحصّنوا في لعبة التدويل بدلا من نقل الدولة الى ساحة التداول السليم للسلطة السياسية، وتعضيد مبدأ شرعية الحصول والوصول الى السلطة عبر المنفذ الدستوري، ولهذا بقيت الوجوه نفسها، تمارس لعبة التدويل من اجل الحفاظ على مكاسب مادية تجعل من الصعب تحقيق ما يصبو إليه الشعب من دولة قادرة على حماية الحقوق والحريات بما فيها حرية الصحافة والرأي والفكر وما شابه.

وعند البحث عن مؤشرات العجز السياسي عن بناء الدولة وفق منظور حداثوي قادر على ضبط إيقاع الأنشطة السياسية دستوريا، فإننا سوف نجد خللا في مبدأ الوصول الشرعي للسلطة، حيث تتوزع المناصب على شخصيات لا تمتلك الكفاءة لكنها تمتلك الولاء الحزبي، وهذه مشكلة تضرب الدولة العراقية في العمق، ولعل الدلائل التي تؤكد هذا الرأي كثيرة، أهمها فشل السياسيين في بلورة فعل سياسي موّحد يبني الدولة العراقية المتطورة والمستقرة، أما الاحتماء خلف تبريرات الإرهاب، وثقل المتوارَث من الحكومات السابقة، وغير ذلك، لم تعد مقبولة بعدما يُقارب أكثر من عشر سنوات على بدء العملية السياسة، وانتظار الشرائح المجتمعية على أحر من الجمر كي يسود الدستور في تنظيم السلطة والصلاحيات وتقديم الكفاءة على سواها من المعايير عند منح المناصب وما شابه.

إشكالية تنظيم الانتخابات

لذلك مع إجراء أكثر من دورة انتخابية نيابية ولمجالس المحافظات ايضا لكن في الحقيقة لم نتقدم الى أمام في هذا المجال، وهكذا أصبحت الوجوه اللاعبة في الميدان السياسي على دراية وخبرة في كيفية ضمان حضورها الدائم في المشهد السياسي، لضمان مكاسبها المادية اولا، بغض النظر عمَا سيلحق بالشعب من اهمال وظلم نتيجة لانهماك الجميع بحماية مصالحه الفردية او الفئوية او الحزبية، أما مصالح الشعب والشروع الدقيق في بناء مرتكزات الدولة المتقدمة، فهو أمر غير مرغوب به أصلا، لأنه يقوّض التدويل الذي تمارسه الكتل والاحزاب والوجوه الحالية، حيث تحافظ على حضورها في المشهد السياسي منذ أكثر من عقد ونيّف.

ولعل الإشكالية تكمن في القوانين التي تنظم الانتخابات كالقانون الانتخابي الذي لم يستطع أن يحقق العدالة في هذا المجال، ومع مرور الوقت أتقن اللاعبون السياسيون بالتجربة، سبلا وطرائق كثيرة للاحتفاظ بامتيازاتهم، والنظام الانتخابي المتحايِل، وغير ذلك من الأساليب غير المشروعة، الأمر الذي قاد الى ما يشبه نظام العصابات والتكتلات المتصارعة فيما بينها، مع نسيان مجحف ومخيف للشعب وحقوقه واحتياجاته الأساسية، والدليل الذي يؤكد هذا الرأي، هو الصراع القائم بين السياسيين، وهو صراع ذو طابع مصلحي واضح ولا علاقة لمصالح الشعب به، وقد تابع العراقيون بوضوح كيف يتنازل بعض السياسيين وهم قادة لبعض الكتل عن مواقفهم بمجرد حصولهم على منصب أو منفعة تحقق لهم مصالحهم الخاصة، عند ذاك يتم التوافق بين المختلفين المتناحرين فيعرف الشعب أن الخلاف كان على المصالح الشخصية وليس على قضية بناء الدولة أو حماية مصالح الشعب.

لذلك نقول ومعنا مراقبون معنيون بالشأن العراقي، أنه ليس أمام العراقيين اذا أرادوا الوصول الى مصاف الدول المتقدمة، سوى تحقيق مبدأ شرعية السلطة بصورة منضبطة ودقيقة، وهذا المبدأ محكوم بآلية الانتخابات وبالقانون الذي ينظمها وبدرجة التزام الاحزاب والكتل بهذا القانون، فضلا عن الدور الأساس الذي ينبغي أن تتصدى له مفوضية النزاهة، ومفوضية الانتخابات المستقلة بمهنية عالية تحتكم الى الدستور قبل سواه.

في خلاصة القول، اذا أردنا أن نصطف الى جانب الدول القوية ليس أمام النخب، لاسيما السياسية منها، سوى تعديل منهجها في اللعبة السياسية القائمة الآن على الصراع وليس التنافس، كذلك عليهم التقيّد بمبادئ الدستور بحرفية عالية، وتطوير شعورهم الذاتي بأهمية منح الولاء للوطن والشعب قبل منحه للحز أو الكتلة، في هذا الحالة نستطيع أن نرى الضوء في نهاية النفق، لاسيما أننا شارفنا على عقد ونصف من السنوات مرت على عمر التجربة السياسية العراقية التي لا يزال البعض يسميها (بالجديدة).

اضف تعليق