ذات يوم جاء نفرٌ من المهاجرين والانصار الى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وقد بلغوا من القوة والمنعة في المدينة ما يؤهلهم الى الانطلاق الى الآفاق وتصدير تجربتهم الحضارية الرائدة، وكانوا قد جمعوا مقداراً من الاموال لتقديمها الى النبي لقاء ما بذله من أجلهم من تضحيات وجهود مضنية، فهو تحمّل مختلف أنواع الأذى والتنكيل، له ولأتباعه، ثم محاولة الاغتيال والمطاردة، ومن بعدها الهجرة وما انطوت عليه من مرحلة جديدة للبناء الحضاري، وكان المسلمون في المدينة يرون كيف أن النبي يخطب فيهم خمس مرات يومياً بعد كل صلاة، ويرعى شؤونهم ويتابع مختلف شؤون حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، والأهم من كل ذلك؛ تبليغ الرسالة بما لا تهوى أنفس البعض، فلا نوم ولا راحة، وربما كانت النوايا الصادقة، منطلق هذا النفر من المسلمين، لذا لم يعلّق النبي الاكرم بإزاء هذه المبادرة بشيء، فنزلت الآية الكريمة: {قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم.....}.
معظم المفسرون يتفقون على أن هذه الآية تميّز النبي الاكرم، عن سائر أنبياء الله –تعالى- في تثمين جهود تبليغ الرسالة السماوية، وجاء في سور قرآنية عدّة أن أنبياء الله قالوا لابناء مجتمعاتهم: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}، بينما جاء الخطاب من النبي الخاتم أن الأجر هو لكم. فما هو هذا الأجر؟.
لو عدنا الى الايام الاولى من البعثة النبوية، واللقاء الاول والاخير بين النبي وبين أقربائه من قريش، عندما اقترح عليهم أن قولوا كلمة واحد – مضمون الحديث الرواية- تخضع لكم العرب والعجم، فقالوا بأجمعهم: "أي وأبيك..."؟! فقال لهم: أن تقولوا لا إله إلا الله، ولا تشركوا بعبادة الله أحدا، فتملكهم الغضب، وتصوروا أنه سيدلهم على وسيلة او خطة معينة يفرضوا بها هيمنتهم على الأمم الاخرى.
وهذا ما حصل فعلاً، ولكن ليس على يد هؤلاء النفر الضيقي الأفق والعديمي البصيرة، بل جاء على رجال يحبهم الله ويحبونه، أشداء على الكفار رحماء بينهم، فما هي إلا فترة قصيرة حتى فتحت البلاد من جهة المشرق والمغرب والشمال أمام أقدام المسلمين وفق المعادلة التي رسمها لهم نبيهم الاكرم، وهي؛ توحيد الله، وأن يكون فوق كل الاعتبارات والاهتمامات، فالمهمة التوحيدية لا تقتصر في تحطيم الاصنام الظاهرية المصفوفة في كل مكان آنذاك، إنما إزالة جميع الاصنام المعنوية في العقول والاذهان، لاسيما الاصنام البشرية وأصنام الهوى وبعض الميول النفسية التي بامكانها جر الانسان الى الحضيض و المهالك.
في تلك الفترة والبرهة الزمنية، كان النبي يتطلع الى آفاق المرحلة او المراحل القادمة للأمة وما تتطلبه من عناصر قوة ومنعة لمواجهة تحديات الأمم الاخرى، وها ما قدمه النبي لابناء ذلك الجيل الاول، فكل ما فعله وأمر به، كان ينتهي الى مكاسب عظيمة وملموسة على ارض الواقع، فمنذ تلك الفترة ظهرت مصاديق وتطبيقات الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الانسانية وسائر الفضائل والمكارم التي بها انتشر المسلمون في الآفاق ودخلوا القلوب بأخلاقهم وقيمهم قبل ان يغزوا البلاد بسيوفهم، بمعنى الانتصار مع أقل الخسائر والدماء.
لكن المشكلة تبدأ عندما يشذّ نفر من جموع المسلمين ممن يفضل عصبيته وخلفيته الاجتماعية والنفسية على التروي والتأنّي والتفكّر في عواقب الامور، ولا يرى أمامه أبعد من أرنبة أنفه، فيقرأ الخطاب النبوي بالمقلوب وأنه نوع من إضاعة فرصة الانتصار السريع والخسارة أمام الاعداء.
هذه الاشكالية في عقلية البعض، كادت أن تخلق كوارث رهيبة للنبي وللمسلمين في تلك الفترة المصيرية من تاريخ الاسلام، بسبب ضيق في الرؤية وسوء فهم متعمّد، ولعل ما جرى في "صلح الحديبية" يكون شاهداً صارخاً، عندما وقع النبي الاكرم، وثيقة صلح مع المشركين في منطقة الحديبية، بعد ان منعوه من دخول مكّة، وكان قاصدها مع جموع المسلمين لأداء مناسك العمرة، وقد أثبت بالأدلة والبراهين القاطعة، انه لم يأتيهم غازياً وإنما معتمراً، وكان المسلمون، وبينهم الاسماء الكبيرة في قومهم، قد عزموا على أداء مناسك العمرة ودخول مكة رغماً عن أنف المشركين وتحديداً قريش، وكان ذلك في السنة السادسة من الهجرة، وبعد أن قويت شوكة المسلمين بفضل الانتصارات والغزوات، مما جعلهم يشكلون قوة يحسب لها ألف حساب أمام مشركي مكة، بمعنى أن لا عودة الى المدينة إلا بعد أداء مناسك العمرة.
بيد أن الذي حصل؛ تلاحق الاحداث باتجاه التفاوض والمحادثات المكوكية بين النبي و زعماء المشركين في مكة، وبعد شد وجذب ورسائل ووفود للحديث مع النبي وهو يرابط في الحديبية، أذعن المشركون أن ليس أمامهم سوى التفاوض مع النبي، عندما وجدوا المواجهة العسكرية في غير مصلحتهم، بل وتكرر كوارث الهزيمة عليهم، فاقترحوا المصالحة على أن يعود النبي الى المدينة هذا العام، ويأتيها العام القادم مع من معه من المسلمين ويبقى في مكة ثلاثة أيام من دون سلاح غير السيوف في أغمادها، ومن أحب من المشركين ان يدخل في الاسلام كان له ذلك، والعكس كذلك، ومن بنود الصلح ايضاً، إن من خرج من المشركين الى صف المسلمين، كان للمشركين استرجاعه، والعكس كذلك.
هذا كان مختصر ما جرى في الحديببة، وقد أوضح النبي للمسلمين بأن ما جرى كان خيراً لهم، وأن الصلح الذي أغن له المشركون، يشكل اعترافاً صريحاً منهم بقوة المسلمين وأنهم قوة لا يمكن التفكير في مواجهتها بسهولة، بيد أن هذا لم يشفع لدى البعض مما كان يرى الموقف المحرج أمام الناس في المدينة بعودته خائباً وليس متعمراً، أهم بكثير مما يقدمه النبي من مكاسب او ما يحصل من تطورات في مسيرة الدين.
ويذكر اصحاب السير والمؤرخون بأن موقفاً مثيراً حصل بينما كان يُعد تدوين الاتفاق والتوقيع عليه من الطرفين، "فوثب عمر بن الخطاب بعد حوار دار بينه وبين أبي بكر، وجاء الى النبي وقال له: ألست برسول الله...؟! قال بلى، قال: ألسنا بمسلمين وهم مشركون؟! قال بلى، فال فعلام عطي الدنية في ديننا...؟! فقال له النبي: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره...". ويبدو ان الاخير لم يقتنع بكلام النبي، فقد جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير، أنه قال ايضاً: "أولست كنت تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟! قال بلى، ولكني هل أخبرتك بأنك تأتيه هذا العام، فقال: لا، قال النبي: انك آتيه".
ولم ينته الاعتراض والتشكيك عند هذا الحد، إذ تطور الامر الى اتخاذ خطوة عملية بغير الاتجاه الذي يقصده النبي الاكرم وما تريده السماء للبشرية من اهداف للرسالة الحضارية، فقد أجمع الطبري وسيرة ابن هشام وغيرهما من المؤرخين على أن عمر بن الخطاب، ناول ابن سهيل بن عمرو الرجل المفاوض من قبل المشركين، وكان يروم الانتقال الى صفوف المسلمين بعد إبرام الاتفاق، وذلك ليضرب به أباه الذي منعه وحاول استرجاعه، وحسب ما يرويه الكاتب الفذّ السيد هاشم معروف الحسني في "سيرة المصطفى"، بأن عمر بن الخطاب هو الذي بيّن فيما بعد للرواة ما قام به، وليست القضية "نقلية" بأني "أدنيت منه قائم السيف وقت له: إن دم أحدهم دم كلب..."؟!!
ولا نسهب كثيراً في تحليل السيد الحسني لتصرف عمر، وما يمكن ان تؤدي الى عواقب وخيمة وكارثية، بيد أن الذي يهمنا اليوم وكل يوم، كيفية قراءة المنهج الذي وضع وفق معادلات وسنن إلهية تصبّ في كل الاحوال في صالح الانسان في حاضره ومستقبله.
هذا العوق الفكري – إن جاز لنا التعبير- استمر لدى شريحة من المسلمين، حتى عقود وقرون من الزمن، وقد عاصر هذه الظاهرة، الأئمة المعصومون، عليهم السلام، والامثلة على ذلك كثيرة، أبرزها ما جرى في الهدنة بين الامام الحسن ومعاوية وغيرها من المواقف الاخرى التي سقط فيها البعض في اختبار قوة الايمان وتماسك العقيدة.
اضف تعليق